الإطار: قصر للثقافة والفنون وتربية الحسّ الجمالي والنّقدي معا. المركّب الثقافي «نياپوليس» معلم ومنارة تجلب الفخر لروّادها وأهلها وتؤكد أنّ المؤسسة أيّة مؤسسة رهينة القائمين عليها من المختصّين والإداريين معا منهم تستمدّ حياتها وظيفتها التي لها شُيّدت. ولولاهم لآلت الى قلعة خاوية تصفّر فيها الرّداءة والبؤس. «نياپوليس» استثناء رائع يغلي كالمرجل لا ينقطع نشاطه أو يكل خليّة من التفاعلات الثقافية والهواجس الفكريّة العميقة. وأشهد أنّ ما رألت كلّما مررت من هنا يدعو للبهجة ويثلج الفؤاد المحترق بألف جمرة وجمرة. يوم فيفري عرّجت من هناك وأسريت فكان الحفل في أوجه: «التلفزة جاية» ومعرض الكتاب و»معرض الفنون التشكيلية» وحفل توقيع رواية الشّاعر محجوب العيّاري البكر الموسومة «أمجد عبد الدائم يركب البحر شمالا». أمجد عبد الدّائم يركب البحر شمالا: رواية بكر للكاتب الشاعر محجوب العيّاري صدرت أواخر ديسمبر عن دار «أركانتار المغرب العربي» في طبعة أنيقة. كتب الرّوائي صلاح الدين بوجاه تعليقا على هذه الرواية: «مراوغ.. مفاجئ.. يكاد يرسم ابتسامة نزقة عند زاوية فمه.. يمضي هذا الأسلوب يتعتعه سكر الرّواية المعاصرة التي عبرت أنهارها بسرفنتيس» و»رابلي» و»البشير خريف» و»صبري موسى». فتعكّرت مياهها بمزيج من القشّ والأعواد الجافّة وتراب المقابر المنسيّة وعطن الحانات الصغرى.. واستوت وسطى بين لمحات الشعر وتبسّط الرواية.. هذا هو أسلوب محجوب العيّاري، هذا الآسر الذي نستعيره من الشّعر لينضمّ الى قافلة الرّوائيين التي تمضي مثل «مرحول» فيها كائنات متناقضة.. شعثاء.. باكية.. كلبُها عاوٍ ولغطها كثير..». قرأت الرّواية مخطوطة وعايشتُ بعض نحتها وبعض مناخاتها بالفعل أو بالقوّة أو بصفة استعاريّة. قرأت الأثر فألفيت جنون الفنّ وذاكرة الفتنة المكلومة وشهادة على وقائع سنوات الجمر والخمر. إنّها رواية ذات لغة ساحرة ولهجة محتجّة قد لا ترضي كلّ الأطراف. تقول بوسائطها الأسلوبيّة وشخوصها المتجذّرة في تربتها أنّ ممارسة التخفّي تضليل وأنّ الإنسياق وراء التّبرير زور وبهتان. أمجد عبد الدّائم ومخطوطه «مرافئ السّراب» صَنَعَا عملا أدبيّا منخرطا في حداثة التّجريب، حداثة راهنيّة تقودنا أو تزجّ بنا الى أن «نعرف ما ينبغي تجنّب العودة إليه» كما يقول رولان بارط. عتباب أولى: وهي قراءات احتفائيّة بالمناسبة السّعيدة قدّمت الكتاب ولا تدّعي أن تكون دراسة ولأقل إنّها مشروع دراسة ستكون جادّة وممتعة في نفس الآن. أ سهيل المغيربي: تناول الرّواية بنائيّا في ورقته الموسومة (العلبة الرّوسيّة/اللّعبة الرّوسية). فالرّواية قصّتان: قصّة إطار وقصّة مضمّنة. والرّاوي راويان: راوٍ أوّل شاعر (صاحب المخطوط) وراوٍ ثان شاعر أيضا وهو قارئ نهم للرّواية: وكلاهما راوٍ وشخصيّة في السّرد. ومن هذا التّماهي بين القارئ والشاعر تنكشف قصص وتتداخل العلب: قصّة الطّلبة وقصّة الرّايس الحمزاوي وقصّة البطل مع سلمى وقصّة النّقطة/النّطفة( طاهر وظاهر) وبطل ضائع ينتهي به مآله في الشّمال متّهما بلعنة الإرهاب. بينما كان دائما عاشقا للخمرة والحرية. فالرّواية تقوم على ثنائيّات عجيبة لغة وأسلوبا وشخوصا: لغويّا تمضي قصيدة دراميّة أو رواية شعريّة. وأسلوبيّا هي متن حكائيّ وهامش نقديّ رصين. أمّا شخوصها فهم ظاهر وطاهر وسواهما كُثرٌ يراوحون بين النّقاء والطّهر والنّبل وبين الرّياء واللؤم وفساد الطّبع. ويقرّ الأستاذ المغيربي أنّ الرواية لعبة لغويّة مربكة تحتفي بالأسماء وبهذا العالم الجميل. عرّت بجرأة مأساة كبيرة: أُولُوكُوست الجنوب التونسيّ في «رجيم معتوق» الذي استهدف كثيرا من الطّلبة بداية الثمانينيّات. ب شكري الولهازي: قارب مسيرة عبد الدّائم مقاربة فلسفيّة لأنّ المعنى الثاوي في الأثر يحيل على الفلسفة والأدب الوجوديين ومصائر أبطاله يحكمها منطق العبث، إذ أنّ مصير الكائن تحدّده نقطة فتحوّله من ظاهر (زائف) الى طاهر (نقيّ) وحبّه رهين الصّدفة آل إلى زواج مع أوّل عابرة سرير ويخلص الأستاذ «الولهازي» إلى أنّ الحياة عبث باهر وأنّ الحبّ هو الشيء الوحيد الذي يشدّ الإنسان إلى الحياة والأرض. ولم يغفل المقدّم عن الأسلوب الذي استغرقته الشّعرية، هذه الشعرية التي أنقذت النص شكلا ومضمونا. هذا ما دار في فضاء محمود المسعدي المُزْدان بمعرض الفنّان رضا الزّيدي الفتوغرافي الذي صوّر جمال مدينة نابل. في قصر الثقافة «نياپوليس» شهدنا ولادة رواية «أمجد عبد الدّائم يركب البحر الشمال». لعلّها التزام بالحريّة والفنّ والإنسان لتصنع من أدبّيتها أدبا محضا لا يُطال يصهل في كبرياء: «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة».