تنتمي هذه الدراسة التي كتبها الناقد محمد الحبيب الكحلاوي بعنوان «اللغوي والميتالغوي في فتنة المتخيل محمد لطفي اليوسفي» الصادرة عن دار مسكيلياني للنشر تونس 2010 الى ضرب مخصوص من النقد هو «نقد النقد»وهذا المصطلح يشير الى «الفعل الذي ينعكس به النقد على نفسه أو يستدير الى حضوره النوعي منقسما على ذاته الانقسام الذي يجعل منه موضوعا للتأمل وفاعلا له على السواء» على حد عبارة جابر عصفور.. ولا تختلف قراءة الناقد وهو يحاور دراسة نقدية أو يسائلها أو يتدّبر ما جاء فيها من أفكار وآراء عن بقية القراءات الأخرى. فهي تقوم هي أيضا على استنطاق النص وتوظيف امكاناته التأويلية أي تقوم على تأسيس نص جديد على هامش النص الأول يكون نتاج هذه العلاقة التي تنعقد بين القارئ والمقروء، بين الناقد والنص.. وقد تناول الناقد محمد الحبيب الكحلاوي بالدرس كتاب «فتنة المتخيّل» لمحمد لطفي اليوسفي وهو الكتاب الذي ينتمي هو أيضا ،في العديد من فصوله، الى نقد النقد لأنه لم يهتمّ بمساءلة النصوص فحسب،وانما اهتمّ أيضا بما حفّ بنشأة هذه النصوص من روايات الرّواة وأخبار الاخباريين. ونص اليوسفي من النصوص التي تتكئ كثيرا على المجاز توظّف طاقاته التعبيرية والايحائية وهذا «المجاز» هو الذي حوّلها الى امكان تأويلي مفتوح على أكثر من قراءة،على أكثر من مقاربة لأن المجاز يستبعد منذ البدء المعنى المفرد،والدّلالة الجاهزة،والقراءة الأحادية،ويفرض على القارئ أن يسهم في «خلق» المعنى،أي يفرض عليه أن يسهم في اغناء النصّ واخصابه. نصّ اليوسفي اذا أخذنا بعبارات الناقد «يطرح موضوعا بقدر ما يطرح ذاتا» فهو لم يمتثل لضوابط العمل الأكاديمي فحسب وانما امتثل أيضا لايقاع الذات، فجاء مزيجا من «البحث الأكاديمي» و«الاستقراء الابداعي» لهذا يصيخ القارئ في هذا النص الى صوتين اثنين يتمازجان ويتداخلان ويتشابكان: صوت الأكاديمي الشارح والمنظّر الرّاصد لدقائق المنجز الفني، وصوت المبدع الممتلئ باللغة.. لكن ربما علا، في بعض الفصول،صوت المبدع على صوت الأكاديمي فجاءت هذه الفصول»بحبكة الرّواية،واستعارة الشّعر،وتعمية النصوص الصّوفية وانسياب لغة الملاحم والرّسالات مسترفدة» من تلك النصوص، كلما انطوت عليه من غريب وعجيب ومدهش. هذا الاعلاء من شأن اللغوي هو الذي أغرى الناقد الكحلاوي بقراءة نصّ اليوسفي والتوغل في عتمات رموزه راصدا لغة نقده،مستجليا نسيج كتابته،باحثا من خلال ظاهر اللفظ،عمّا تكتّم،وتستّر وظلّ في أعماق النص ملفعا بالصّمت والظلام. لقد أراد الكحلاوي أن يستنطق النّص من خلال لغة الكتابة لا من خلال ايديولوجيا القراءة اللغة تقول أكثر مما تقول الكلمات، ونظام النص يكشف من الأسرار أكثر مما تكشفه المفردات .. ومعنى ذلك أنّ اللغة تتكلم من وراء الذّات المتكلمة ،تفصح عن نفسها من وراء الناطق بها ،فكما أوضح « دريدا» ليس الكلام مجرّد تعبير صاف من مقاصد صاحبه،ولا هو مجرد استحضار لمعنى بكر وانما الكلام ينبني دوما على غياب. والمعنى يستعصي على الحضور ومن ثمّ فان القراءة لا تقول ما يريد النّص قوله وانما تقول ما يرغب النّص عن قوله،أو يرجئه،أو يستبعده.. القراءة افشاء تقول ما امتنعت اللغة عن قوله. لماذا يستخدم اليوسفي «معجما» بعينه لا يكاد يحيد عنه؟ ولماذا يتشبث بنمط مخصوص من التّراكيب تتردد في كتابه ولا تتجدّد؟ وما دلالة أن يظل النّص يدق أجراسا ثابتة ومتغيرة بانتظام حتى أنّنا نستبطئها أحيانا أو نتنبأ بأنّه لابّد أن تقرع عمّا قريب فلا تتخلّف عن الحضور؟ هل شعرية نص اليوسفي مجرد زخرف أم أنها شعرية محمّلة بالمعنى؟ تلك بعض الأسئلة التى حاول الكحلاوي الاجابة عنها من خلال هذا العمل.