قرأ النّاقد الحبيب الكحلاوي في دراسته «اللّغوي والميتالغوي» كتاب «فتنة المتخيّل» لمحمد لطفي اليوسفي، واستهلّ هذه القراءة بتأمل المقدّمة، والنّظر في بنيتها ونظامها اللغوي فلاحظ أنّها محْكومة بغرضٍ واحدِ يوجّه لغتها وهو استدراج القارئ، عبر الاستلطاف والاسترضاء، «لضمان استرساله في التلقّي، على أمل إبقائه في النّص، وتجنيده لمآرب الكتابة». ففي القراءة يحقّق النّصّ حضوره، ومنها يستمد بقاءه. أمّا الأساليب التي توسّل بها الكحلاوي لتحقيق هذا الغرض، غرض استدراج القارئ، فهي كثيرة متنوّعة، بعضها لغوي، وبعضها غير لغوي. أمّا اللّغوي فيرتبط بصيغ مخصوصة تردّدت ترددا لافتا للنظر في هذه المقدّمة، وربّما في الكتاب كلّه لعلّ أهمّها صيغة النفي التي، كما لاحظ الكاتب «تقْرَعُ في الفقرة الواحدة قرعًا يصمّ الآذان» وصيغة النفي في هذه المقدمة، وربّما في بقيّة فصول الكتاب، ليست مجرّد عمليّة لغويّة تحضر في القول مثلما يحضر الإثبات وإنّما هي مسوّغ من مسوّغات الكتابة نفسها... فعمل اليوسفي يقوم على نفي القراءات السّائدة والاستدراك عليها، ثمّ اقتراح قراءة جديدة تقوّمُ القراءات السّابقة، وتبدّد بعض أوهامها. في هذا السياق نفهم هيمنة ضمير المتكلّم على كل نصوص اليوسفي، يلقي بظلاله على رموزها وصورها.. فاليوسفي، كما أوضح الكاتب، لا يتقدم إلى القارئ بوصفه ناقدا يصغي إلى نبض النص فحسب وإنّما يتقدم إليه أيضا بوصفه «معلّما» يُلَقّنُ ويوجّه ويقوّم في آن واحد ... كما تعمّد الكاتب من أجل تحقيق هذه الغاية تفعيل تقنيات أخرى مثل التعليل، والبحث عن الأسباب صعودا إلى منابتها كما تعمّد استخدام صيغ التهويل مثل عبارات (في منتهى الخطورة / تستمدّ خطرها) لشدّ انتباه القارئ واستنفار كل ملكاته في حضرة النّصّ. إنّ استراتيجيا الكتابة عند اليوسفي تقوم على التأثير والإقناع، وربما تقوم على التأثير أكثر من الإقناع لهذا جنح نصّه إلى الإعلاء من شأن «طرائق القول» أكثر من الإعلاء من شأن «مَقُولِ القول» فبقدر ماكانت «مقروئية» النّصّ شفّافة شكلا، تعتّمت مضمونا، إذْ سرعان ما يعلق المتقبّل في شراك اللغة قبل أن يهمّ بتفكيك رموز المضمون... في مرحلة ثانية التفت الكحلاوي إلى متن الكتاب، والتفت، على وجه الخصوص، إلى الصيغ الصرفيّة التي تردّدت في فصوله، فوجد أنّ صيغ «المفاعلة» هي أكثر الصيغ انتشارا في الكتاب. وهذه الصيغ إما أنها تفيد معنى المشاركة، أو معنى المطاوعة، ولم يكتف الكحلاوي برصد الظاهرة بل عمد إلى وضع جداول جمع فيها عددا هائلا من الأمثلة تؤكد تواتر هذه الصّيغة في الكتاب ويمكن للقارئ أن يتبيّن، من هذه الجداول، أن حضور هذه الصيغة لم يأت عَرَضًا بل يتنزّل سمة من سمات الكتابة عند اليوسفي... هذا الكاتب / الناقد الذي أجاد الإصغاء إلى اللغة، وتحسّس نبضاتها وتفيأ ظلالها على حدّ عبارة الكحلاوي. فالخيار اللغوي كان خيارا صفويا عمد إلى تفعيل صيغ بعينها وأفعال بعينها، وأدوات بعينها «ممّا جعل الكتّابة فعلا في اللغة أكثر منه في المضمون». اللغة هنا ليست مطيّة لمقاصد بقدر ما هي مطلوبة لذاتها . لكن الناقد لم يكتف بعرض كلّ الأساليب اللغوية التي توسّل بها اليوسفي لاستدراج قارئه فحسب بل أشار أيضا إلى الأساليب غير اللغوية، الموصولة بمسائل نفسيّة واجتماعية أخفى... ويلحّ الكحلاوي، في هذا السيّاق، على فكرة اليتم بوصفها الفكرة الرئيسة التي تشدُّ كل فصول الكتاب شدّ تآزر وانسجام ... هذا اليتم المتأتي من موت القديم (الأب) وأفول نجمه، منذ عهدٍ بعيدٍ ... ممّا جعل «الأبناء» يضربون في التيه باحثين عن عزاء لا يكون... هذا اليتم هو الذي يفسر، في نظر اليوسفي، مسار الثقافة العربية، وارتباكها وتعثرها ... وعبارة «اليتم» كما لاحظ الكحلاوي بوّابة مشرعة على الفجيعة ورثاء الحال... وهذا ماجعل كتاب اليوسفي مفتوحا على مناخات قياميّة ما إن يشر إليها النّصّ حتى تتلبّسه فيعلق في متاهات أصقاعها ولا يعرف كيف سيشفى منها أبدا .. يقول الكحلاوي معلقا على هذا المعجم الفجائعي الذي يهيمن على النص « لا أعتقد أنّ هناك نصوصا نقدية انفتحت على مناخات الروائيّ والملحميّ والإبداعيّ عموما مثلما انفتح كتاب «فتنة المتخيّل». فاليوسفي قد استطاع أن يتجاوز جفاف المصطلح النقدي، وصرامة الكتابة العالمية المتمثلة لشروط الكتابة الأكاديمية، وتمكن بنباهة فائقة، من توظيف طاقة اللغة التعبيرية / التأثيرية لاستنطاق النصوص وما حفّ بنشأتها من أحداث. وفي فصل عنوانه «اللغة تهفو إلى أن تكون شعرا» يتناول الكحلاوي بالدّرس والاستقراء «الجوانب الفنية» في نص اليوسفي. فينطلق الباحث من حقيقة استقاها من كتب اليوسفي ومفادها أن لغة هذا الناقد لا تعمل خارج المنطق التعبيري أبدا، ولا تفتأ تنهلِ من معين الفصحى متّشحة بظلال تعبيرية غالبا ما يستحضر فيها الاسطوري والملحمي، والديني. وللأساليب الشعرية (أو التعبيرية) تجلّيات شتّى منها على وجه الخصوص الجنوح إلى التفخيم والتضخيم مثل (ثمّة فجوة مدوّخة / تشهد مدنا قاطبة بتعاظمه) لكأننا باليوسفي تجرفه الكلمات فينقاد وراءها غير آبه بما تنطوي عليه الكلمات من مبالغة وتهويل «إنه الاستبداد إذن.. استبداد اللغة بالذات المتكلمة»، يقول الكحلاوي، مضيفا «واستبداد الكتابة بالمتلقي ترسم له ما تتمثل، لا ما يمثل في الواقع». إنّ قراءة الكحلاوي «لفتنة المتخيل» استهدفت أمرين اثنين : الأمر الأول: استقصاء أبعاد النصّ اللغويّة، وتفكيك ما أشكل من عناصرها الأمر الثاني : يتمثّل في تأمّل «مضمون» العمل ورصد أهمّ أسئلته و«ما يطرحه من خارطة طريق لقراءة المنجز الأدبي القديم». وقد تمكنت هذه القراءة من حفر طبقات نص اليوسفي والوقوف على عناصره اللغوية والفكرية الفاعلة . إنّ هذه الدراسة، وان اتّسمت بطابع ذاتيّ لا تخطئه العين فإنها تؤكد أن النص النقدي الحديث ليس نسقا مغلقا على ذاته، أو مجرد فعل لساني، وإنما هو مساحة مفتوحة يمكن التّسلل إليها بطرائق شتّى لنقف على مكر اللغة وخديعتها... أي لنقف على إمكانات تأويلية عديدة واحتمالات قرائية شتى.