نلتقي اليوم ثانية بالدكتور محمد الطاهر المنصوري أستاذ التاريخ الوسيط والبيزنطي بكلية الآداب والفنون والانسانيات بمنوبة. بماذا كان يحلم الطفل الذي ولد في الروحية ودرس في مكثر، هل خطط لحياته فلسفة خاصة، وحلم بالمعرفة كحالة مستمرة طوال الحياة؟هل بنى أحلامه وفق قدراته ليجعل منها بحثا عن أشياء تبدو عادية، لكنها يلجها في العمق ليطلعنا على معان مستترة وصفات ثرية وألوان لم نرها؟في الأسبوع الماضي كشف لنا عن أسرار اللباس والزنار، واليوم سيحدثنا عن مفهوم مصطلح الحجاب، عن رواياته في الحديث، وسيحكي لنا التاريخ.. بدايات التاريخ الجديد، عن التاريخ البيزنطي والحضارة العربية، هو أول من طرح وضعية افريقية القانونية، وهو يؤكد أن لا حضارة تدين لحضارة أخرى، ما هو مفهوم مصطلح « الحجاب» في القرآن ؟ هناك تسع آيات ذكرت كلمة حجاب، لكن آيتين فقط تتعلقان بالحجاب أو ما يفيده كزيّ للمرأة، ومنها آيتان تعنيان اللباس وهما آيتان لا يمكن أن ننظر اليهما بتجريدهما من اطارهما التاريخي، وأسباب نزولهما شأنهما في ذلك شأن كل النص القرآني. متى نزلت؟وفي أي اطار؟ آية مكية في بداية الاسلام {قل لنسائك ونساء المؤمنين أن يضربن بخمورهن على جيوبهن} هذا الخطاب لم يأت مباشرة الى المؤمنات، وانما عبر الرسول صاحب الرسالة، في «قل ...» الرسول واسطة. في تلك الفترة كانت هناك مصادمات بين المسلمين، والمرأة هي أضعف البشر، كانت تداس وتؤخذ سبية، فأتت الآية حتى لا يلحق المؤمنون بهن أي ضرر، في حالة الحروب يصعب التمييز بين المرأة التي هي من هذا الصف أو من الصف المقابل. فلحماية المرأة مما قد يرتكبه المؤمن من خطإ كان الحجاب أداة وقاية وحماية. وبالتالي فهذه الآية نزلت في إطار حربي يحتاج فيه الناس لمعرفة من معهم ومن ضدهم حتى لا ترتكب المآثم بحق من كان مواليا ولكي يحمي الناس بعضهم بعضا من عدوهم. الآية الثانية في سورة الأحزاب {وأقضوا حوائجكم معهن، من وراء حجاب} أي مع أمهات المؤمنين. والحجاب يعني حاجز، الآيات نزلت بلغة العصر، ومظاهر العصر، وذهنية العصر، فكيف يمكن أن ننظر للمسألة في القرن الخامس بذهنية القرن الحالي، اعتقد ان قراءة النصوص القديمة الدينية وغير الدينية دون اخذ الفارق الزمني في الحسبان كما لو أنه اقرار بأن المجتمعات كائنات جامدة لا تتحرك. وهذا أمر يصعب التشبث به أمام حركة التاريخ وتبدل الأحوال بفعل الثقافة وبفعل التطور المادي وبفعل التعايش مع المجتمعات وبفعل التأثير والتأثر. هناك روايات في الحديث عن الحجاب ؟ هناك 125 رواية حديث في الصحاح التسعة، فيها لفظة حجاب، لا يوجد أمر بالتحجب، بل الحجاب كتأريخ بنزوله، وعندما نبحث في الحديث عن كلمة خمار، نجد ستة عشر رواية حديث فيها أمر بتخمير المرأة، لكنني كمؤرخ أتساءل: كيف أن أغلب رواة هذه الأحاديث كن من النساء، أليس هذا من باب شهد شاهد من قومهم، وفي النصوص التاريخية هناك من النساء من عبرن عن رفضهن وقلقهن لهذه المسألة، حتى أنه ينسب لاحدى النساء بيت من الشعر : «ليت النقاب على القباح محرم وعلى المليحات خطيئة لا تغتفر» هل للألوان رمزية ؟ الألوان لها وظيفة حسب الفترات التاريخية و حسب المجتمعات، الأسود والأزرق لونا الشر والموت. الأبيض لون الطهر والنقاء، ويلبس في الحزن وحضور مواكب الدفن. والأحمر ليس بالضرورة سلبيا ولا ايجابيا، اللون الأخضر هو لون الجنة، استعملت الألوان كرمز من الرموز السياسية، لبس الأمويون اللون الأبيض وسموا «المبيضة» قياسا بالمسودة وهم العباسيين، اللون موحد للمجموعة التي تختاره، ومفرق للمجموعة الأخرى. اعتمد الفاطميون اللون الأسود لتمييز أهل الذمة، وجعلهم في مرتبة العباسيين، أي لا يجوز للعباسيين الخلافة شرعا حسب وجهة نظر الفاطميين. أما اختيار العباسيين للون الأسود فاحالة الى بردة الرسول، تأسيا بلباسه، لأنهم يعتبرون أنفسهم من آل البيت، وأصبح اللون رمز الدولة، والفعل الذي يستعمل «لقد سود» له معنيين، «اللون الأسود» ومعنى السيادة «لقد سودتك العرب» أي جعلتك تسود، جعلتك سائدا وسيدا. هل كان للباس الرسول لون معين ؟ وجدت في النصوص التاريخية أن الرسول ارتدى كل الألوان، فاستقراء لهذا الموقف يدل على أن الرسول أرسل لكل الأمم، يدل أيضا على كونية الاسلام وكونية الرسالة، لم يتميز الرسول بلون، هو نبي كل المجموعات. ما هو مفهوم التاريخ الجديد؟ومتى بدأ ذلك التاريخ ؟ سؤال مهم وهو يتمم الحديث عن اللباس ورمزيته في الحضارة العربية الاسلامية، لان المقاربة التي قمت بها هي مقاربة مستمدة من صلب التاريخ الجديد. أي أن التاريخ الجديد هو منهج ينطلق من مسائل تبدو بسيطة وهامشية ليصل الى المركز. فمثلا من خلال نوعية اللباس ومن خلال ألوانه يمكن أن نصل الى الفوارق الاجتماعية، ويمكن أن نصل على ذهنية المجتمع ويمكن أن نصل الى ممارسة السلطة والى غير ذلك. فالتاريخ الجديد ليس قاعدة تطبق وانما منهج يمكن أن نستلهم منه طرق الأسئلة وطرحها، واعتماد المصادر ومساءلتها مساءلة جديدة لم يسبق لها أن تطرح، فهو منهج يعتمد المصادر بلا مفاضلة، ويطرح الأسئلة بلا مواربة.فكل ما هو موجود من تراث مادي وتراث لامادي، يمكن أن يكون موضع دراسة تاريخية تعتمد مقاربات مختلفة، وتتجاوز القراءات العاطفية للتاريخ التي تبحث في الأمجاد «وفي المواضيع الأنيقة»، كما يقول بعض الدارسين الذين تجاوزهم الزمن، ولم يدركوا أن التاريخ يتحرك ومناهجه تتحرك. فربما مازلنا ننظر للتاريخ من زاوية أداة تسكين الآلام الحاضرة من خلال التغني بما كان ناصعا في الماضي. التاريخ الجديد لا يفاضل بين المواضيع، فليست هناك مواضيع نبيلة ومواضيع خسيسة، وانما كل المواضيع رغم «هامشيتها» هي مركز من مراكز الثقل في تاريخ البشرية وبالتالي هو تاريخ شمولي. ما هي أهم الجوانب التي خصصتها في دراساتك للتاريخ الوسيط وما هي المناطق الأهم التي يشملها التاريخ البيزنطي؟ لقد اهتممت بالتاريخ البيزنطي من وجهتين: الوجهة الأولى تتمثل في الحضور البيزنطي بافريقية أو بلاد المغرب في بداية العصر الوسيط من الناحية المؤسسية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية البشرية. وقد حاولت في هذه المواضيع التعرض الى الأسباب التي جاءت بالبيزنطيين الى افريقية، والى التغييرات المؤسسية التي أحدثوها، وهي مؤسسات فيها كثير من التجديد بالنسبة الى العهد الروماني. ومن هذه الناحية قد يجانب بعض الدارسين الصواب عندما ينظرون الى الفترة البيزنطية على أنها فترة رومانية متأخرة. كما تعرضت الى البنية الاجتماعية في إفريقية في العهد البيزنطي، وهذه من الدراسات التي تميط اللثام عن الواقع الاجتماعي في الفترة السابقة للفتح العربي. وفي نفس الاطار يمكن القول إن الظروف الاجتماعية هي التي جعلت جرجير الوالي البيزنطي ينفصل عن الامبراطورية البيزنطية سنة 646م. ولعلني أكون أول من طرح مسألة وضعية إفريقية القانونية في الفترة الممتدة ما بين معركة سبيطلة 647م وفتح المنطقة من طرف حسان بن النعمان سنة 698: إفريقية في هذه الفترة لم تكن تابعة للعرب، ولم تكن تابعة للبيزنطيين فسميتها بإفريقية المستقلة. وهو أمر مهم لأنه سيمهد لما سيأتي فيما بعد... أما الوجهة الثانية وهي تناول علاقة البيزنطيين بالمسلمين من خلال عديد الجوانب من الناحية السياسية العسكرية ،ومن الناحية الثقافية، ومن ناحية النظرة المتبادلة بين الشعوب، ومسألة الاعتراف الحضاري المتبادل في العصر الوسيط. وحاولت تتبع هذه العلاقات على مختلف المستويات، ولعل ما يمكن قوله إن العلاقات البيزنطية الاسلامية في العصر الوسيط، وبصورة أقل العلاقات الاسلامية المسيحية الغربية ،هي أفضل بكثير مما نقرأه اليوم، وقدرة شعوب العصر الوسيط على تجاوز الاختلافات أكثر بكثير من قدرة شعوب العصر الحاضر، وذلك راجع الى وجود جملة من القيم التي تراجعت اليوم، منها الحلم والكرم والشهامة والرجولة والفروسية بمعناها القيمي، وليس بمعناها البطولي. كما تعرضت من خلال دراسة العلاقات الاسلامية البيزنطية الى مسألة الأقليات هنا وهناك وكيفية التعامل معها. ولعل أحسن مثال هو وجود نساء كثيرات في البلاطات الاسلامية، عدد كبير منهن من أصول بيزنطية. ولعل من العناصر المهمة في هذا المجال هي مسألة التأثير والتأثر الحضاري. وهذا الموضوع ليس بالسهل تناوله، لأنه لمعرفة التأثير لابد من معرفة ما هو سابق، لذا وجب البحث في اللغة وفي المصادر التاريخية، لنجد مثلا اقحام العديد من الكلمات والمصطلحات اليونانية في اللغة العربية، ولعل ذلك راجع الى موقف أولي من طرف العرب في بداية قوتهم، والمتمثل في أن كل ما يمكن أخذه من الآخر هو غنيمة حرب. فاللغة اليونانية أو بصورة أخرى المصطلحات والأسماء المؤسسية والحضارية اليونانية البيزنطية التي دخلت في القاموس العربي هي من هذا الصنف. وليس من باب الصدفة أن نجد في القرن العشرين الأديب الجزائري يعتبر اللغة الفرنسية في الجزائر بمثابة غنيمة حرب لا يجب التفريط فيها. ومن هذا المنطلق لا يمكن أن تقحم اللغة دون أن يرافقها البعد الحضاري والثقافي المتعلق بالحياة اليومية وبالمؤسسات التي تعبر عنها. ومن هذه المنطلقات جاءت مظاهر التفاعل الثقافي في الاتجاهين. وبالتالي لا يمكن القول مثلما يردد ذلك بعض زملائنا الأوروبيين في الوقت الحاضر من نوع الأستاذ سيلفان قوقنهايم، من أن الحضارة الغربية ليست مدينة للحضارة العربية، أن هناك حضارة مدينة لحضارة وأخرى ليست مدينة، فالمسألة الحضارية لا يمكن النظر اليها بمنطق بياع التوابل، فهي مسألة لا تحصر بكم، ولا تقدر بقيس وميزان، بل هناك تفاعل وتشابك وتداخل وتكامل بين الحضارات. فليست هناك حضارة مدينة لحضارة أخرى بل الحضارة مبنية أساسا على منطق التهجين خاصة في العالم المتوسطي، الذي كان متقاسما بين العرب والروم الى بداية الحروب الصليبية. كيف كانت علاقة المسلمين بأوروبا في تلك العصور؟ أولا: لا يجب أن ننظر الى أوروبا في العصر الوسيط كما لو أنها موحدة فهي الى اليوم ليست موحدة من الناحية الدينية أو اللغوية هي ليست سوى مجال جغرافي تتقاسمه العديد من الممالك. وهذه الممالك متنافسة فيما بينها حتى في علاقاتها بالعالم الاسلامي. ثانيا: لم تكن العلاقات محكومة بالاختلاف الديني فقط، بل ربما كان الاختلاف الديني غطاء لعديد الاختلافات الأخرى كتلك التي تمس نمط العيش بما في ذلك الحلال والحرام في مستوى التغذية وفي مستوى نوعية العلاقات بين الناس. لذلك يمكن النظر الى هذه العلاقات من زوايا نظر مختلفة، منها ما هو ديني، وهذا ليس من باب المغالطة لو قلنا بأن الاضطهاد الديني في أوروبا في العصر الوسيط يتجاوز بكثير ما قد تعانيه الأقليات الدينية في العالم الاسلامي. فلئن تعرضت الأقليات الدينية الى الاضطهاد، فذلك مرتبط بظروف الحروب الصليبية، وبظروف الحروب البيزنطية الاسلامية ،في حين كان الوضع مختلفا في أوروبا، حيث هناك نظريات وهناك تراتبيات بين الأديان، وهناك سلوكيات صارمة تمارسها المؤسسة الكنسية، وهذا جعل تنقل المسلمين الى أوروبا في العصر الوسيط اقل من تنقل الأوروبيين الى العالم الاسلامي، ولعل عدد الرحلات التي قام بها مسلمون الى أوروبا في العصر الوسيط، تكاد تنحصر في بعض السفارات في القرن العاشر أو في القرن الرابع عشر، في حين أن الرحلات من أوروبا في العصر الوسيط عديدة جدا ومتنوعة. ولكن رغم ذلك فالعلاقات كانت مرتبطة بتبدل الظروف والأحوال، ومتناسقة مع موازين القوى. ولكن في كل الحالات لا يجب أن ننظر الى هذه العلاقات باعتماد الاختلاف الديني كمقياس، لان الدين قد يكون مساعدا في بعض الأحيان على تخطي هذه الاختلافات، من خلال ابراز القيم السمحة فيه، سواء كان الدين اسلاميا أو مسيحيا، لأن الديانات في جوهرها ليست غاشمة، وانما معتنقوها هم الذين حولوها في بعض الفترات الى مبررات للفتك بالآخر المختلف في حين لم يكن «الآخر» سوى «الأنا» في موقع آخر.