بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي تعيدني أجواء رمضان الليلية الى أكثر من عاصمة عربية عرفت رمضانها وأذكر تحديدا القاهرة التي تحتفي برمضان وتتهيأ له، ومنها عرفنا «فانوس رمضان» الذي كان أجمل هدية يحملها المرء معه عندما كان هذا الفانوس يصنع في مصر ومن النحاس النقي، وكلما صادف وجودي في هذه المدينة العريقة أثناء أو قبيل رمضان فلابد من بعض الفوانيس التي أقدمها هدايا ببغداد. لكن آخر فانوسين حملتهما من القاهرة الى تونس قبل أربع سنوات (تاريخ آخر زياراتي لها) عدت بهما لتونس هدية لولدي اكتشفت انهما صناعة صينية وهي الفوانيس الشائعة في مصر في السنوات الاخيرة لرخص ثمنها قياسا للفانوس المصنوع محليا. لكن المدينة العجيبة التي تسهر طيلة شهور السنة صيفا وشتاء وأعني بها القاهرة تظل لياليها الرمضانية عامرة، ندوات، عروض مسرحية، لقاءات، حوارات حيوية عجيبة في مدينة يتحرك في أحشائها قرابة العشرين مليونا من البشر. ثم تونس التي عرفت ليالي رمضان فيها طيلة سنوات طويلة، وتتمتع هذه الليالي بحيويتها المتأتية من الفعاليات الثقافية والترفيهية المتنوعة التي تنتظم ضمن مهرجان المدينة الذي لا تحتفي به العاصمة فقط بل لكل مدينة مهرجاناتها أيضا. وليالي بغداد الرمضانية عندما كانت بغداد مدينة آمنة موحدة لم تتناهبها الطوائف ولم تغزها عصابات القتل ولم تدنس أرضها أحذية عساكر أمريكا ومرتزقتها. كانت المحلات البغدادية العريقة تتبادل الزيارات لاجراء لعبة «المحيبس» وهو مصغر «محبس» ومعناه الخاتم. وكان الرهان على الزلابيا والبقلاوة والشاي والقهوة ولمّة الأحباب والأصدقاء، وقتها كان التليفزيون ينقل بعض هذه المباريات الرمضانية من المقاهي الشهيرة في بغداد تعميما للفرح الشعبي والحفاوة برمضان المبارك. ذاك زمن الوئام الصافي والأخاء الوطني ولّى بعد أن احتلت العراق وجوه غريبة وحولت أبناءه الى رهائن ومدنه الى معتقلات، ولا تجوب شوارعها الا العصابات بكواتم الصوت والمتفجرات اللاصقة. لكن رمضان المغرب وبصراحة هذا البلد وعمق تقاليده تجعل المرء يحسّ وكأنه يعيش جوا أسطوريا يعيده الى سنوات المجد التليد، هذا المجد المتجدد في تقاليد تترسّخ وتصبح أكثر بهاء وصفاء. أذكر ان أوّل ندوة نظمها اتحاد الكتاب في رمضان 1976 في مدينة «الخميسات» القريبة من الرباط، ولم أعرف وقتها لماذا هذه المدينة دون غيرها، ولم أسأل عن ذلك بل ذهبت رفقة الصديق عبد الجبار السحيمي الاعلامي والقاص المعروف شفاه ا& فهو يلازم بيته منذ أشهر. وقد أوكلت للسحيمي مهمة تقديمي، لكن ما فاجأني رغم ان تلك كانت سنوات البداية ان هناك جمهورا حقيقيا للأدب وقد فاجأتني لا تساؤلتهم بل ملاحظاتهم الدقيقة على القليل الذي كان منشورا لي وقتذاك. وقد ذكّرني الاصدقاء في مراكش بالنقاش الذي تم بيني وبين احد الادباء عام 1976 حول تعاملي مع مسألة الدين والايمان في روايتي «الوشم» وهو تعامل لم يعجب المحاور الذي ذكروا لي اسمه. وأقول ان أي كاتب ستكون سعادته لا تصوف عندما يجد قراء كتاباته يحاورونه فيها ليس من باب الاعجاب بل من باب الاختلاف، ولكن أريحية النقاش هي التي تجعله يفيد ويستفيد كما يقول المثل. والمغرب المترامي يغري عددا من الكتاب الغربيين للإقامة فيه. وقد كانت طنجة الكوزموبوليتانية الاكثر اغراء فأتت ببول باولز الامريكي الذي كتب منها وعنها كل أعماله التي كان ينشرها في أمريكا، كما أتت بالمسرحي الشهير تنسي وليامز الذي يعد من أعلام المسرح العالمي لا الامريكي فقط. وجاءت المغرب بجان جينيه الفرنسي الذي عاش ومات في مدينة العرائش وقبره موجود فيها. أما مراكش فهي الاخرى تغري الفنانين والادباء للإقامة فيها، وقد أشار الاصدقاء لإحدى الفلل المبنية وسط غابات النخيل وذكروا لي انها للممثل الفرنسي آلان ديلون الذي يقضي فيها فترات ليست قصيرة كل عام. لكن المقيم فيها منذ سنوات الاسباني غويتسللو الذي يحبذ الجلوس في شرفة مقهى يطل على ساحة جامع الفنا في فترات راحته ليتأمل نبض الحياة في هذه الساحة الضاجة. وقبل سنوات وزع المستعرب البريطاني دنيس جونسون ديفيز اقامته بين القاهرةومراكش مع زوجته المصورة الصحفية الايطالية. ولكنه قرر أخيرا ان يتحول الى مراكش للإقامة فيها حيث رّتب لي الصديق ابراهيم أولحيان لقاء معه في الفندق الذي يقيم فيه. وديفيز أحد أشهر مستعربين بريطانيين عاش في المنطقة العربية والثاني هو دزموند ستيوارت الذي تنقّل بين بغداد والقاهرة والخليج العربي وقد توفي ستيوارت قبل سنوات بالتسمم وكانت الاتهامات قد وجهت لإسرائيل نظرا لمقالاته الموضوعية المناصرة للحق العربي التي كان ينشرها في الصحف البريطانية. واذا كنت قد تعرفت على ستيوارت شخصيا في القاهرة فإنني لم ألتق بريفيز الا في مراسلات قصيرة، أذكر مرة انه طلب مني ترشيح قصة واحدة فقط لكاتب تونسي يضمها لمختارات من القصة العربية أصدرها باللغة الانقليزية وقد رشحت له قصة لصديقنا الحبيب السالمي حيث ترجمها فعلا. ورغم ان ديفيز في سن قرابة 88 عاما الا انه يتمتع بحيوية واضحة وهو منصرف في الوقت الحاضر لكتابة مذكراته وخاصة حول إمارات الخليج العربي التي عرفها يوم كانت محميات بسيطة.