بقلم: محمد الغزي «لم أكتب كل ما وددت كتابته ما دمنا منخرطين في سياق اجتماعي... لقد أردت، في هذه الصفحات، أن أكون صادقا وصريحا قدر الإمكان، ليشكل كتابي احتفاء بالحياة التي يعيشها مرة واحدة». بهذه الكلمات التي جاءت في المقدّمة نبّهنا الروائيّ الكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي إلى أن ّسيرته الذاتيّة «أيّة حياة هي» الصّادرة عن دار نقوش عربيّة، تونس 2010 قد خضعت لقانون الاستبقاء والاستبعاد.فالكاتب، محكوما بالسياق الاجتماعي،قد أثبت،في سيرته،جوانب من حياته، وألغى، عن وعي عامد، جوانب أخرى. فالكتابة عامّة، وكتابة السيرة الذّاتيّة، على وجه الخصوص ليست بوحا واعترافا فحسب،وإنّما هي صمت وتأتأة أيضا. فسلطان الكتابة يخضع لسلطان آخر أعتى وأقوى هو سلطان السياق الاجتماعيّ، يدفع الفرد إلى التكتم عن أسراره بل يدفعه إلى إهمالها ونسيانها... لكأنّ في هتك هذه الأسرار اعتداء على المجموعة، تبديدا لطمأنتها وسكينتها. ثمّة أشياء ينبغي أن تبقى ملفّعة بالصّمت والظلام، ينبغي أن تحجب عن الأنظار وكأنّها لم تكن. مهما يكن من أمر فإنّ هذه السيرة قد اكتفت بسرد «البدايات»، أي «منذ الطفولة حتى عام 1957...» فاقتصرت على «15 سنة وهي سنوات التكوين» أي إنّ هذه السيرة ضرب من الاحتماء بالرّحم الأولى، رحم الطفولة، ورحم المكان الأوّل. الكتاب كلّ الكتاب إنّما هو احتفاء بهذه المرحلة التي «ظلّت تعتاش» منها نصوص الكتّاب الكبار، على حدّ عبارة الربيعي، ومنها تسترفد رموزها وأقنعتها. التفت الربيعي إلى ذلك الماضي البعيد مستعيدا علاقته بالمدرسة والأب والمدينة والجسد. لكأنّ الربيعي أراد أن يصطاد تلك اللحظات الهاربة في شباك الكلمات، لكأنّه أراد أن يؤبّدها، لكأنّه أراد أن يستمرئ لذائذها من جديد. يقول الربيعي «من هنا أجدني متحمّسا لأفتح ذلك الماضي البعيد والذي أجد أيامه مضيئة واضحة فكأنّها تنعرض في شريط سينمائي». في هذا السياق تحدّث الربيعي بجرأة كبيرة عن صحوة الجسد والرغبة والغريزة ووصف ،بشاعرية لافتة، افتتانه بالمرأة تفتح أمامه أبواب الحلم والكتابة والشعر. ههنا تحوّلت السيرة إلى سرد لحياة الجسد، إلى كتابة لتاريخه، إلى رصد دقيق لتحوّلاته.. فصول كثيرة،في هذه السيرة، صوّرت، دهشه السّارد وهو يكتشف هذه القارّة الجديدة، قارّة الجسد، وصوّرت، على وجه الخصوص توغّله، أعني توغّل الراوي، في ليلة العظيم... فلا سبيل لمعرفة الجسد سوى أن نعيشه، أن نتطابق معه، فنحن أجسادنا، نحن رغائبنا وانفعالاتنا وهذا ما أشار إليه الراوي، بطرق شتّى، وهو يسرد لنا مغامراته في بيئة متكتّمة على أسرارها، لا تريد البوح بها... ومن أجمل القصص التي انطوت عليها هذه السيرة قصّة الراوي مع آية التي تكبره بسبع سنوات... يقول الربيعي «أذكر أنّني كنت في إحدى المرّات واقفا أمام بابنا ومرّت في الزقاق وهي تضع قفّة ملأى باللحم والخضروات على رأسها. وقد انتبهت إلى اندهاشي وانسحابي إلى الخلف لألتصق بالباب وكأنّني أتهيّب رؤيتها، وإذا بها تتوجّه نحوي وتبتسم تلك الابتسامة المضيئة وتمسح بيدها على شعري وتسألني: شلونك (كيف أحوالك) وأجبتها وسط تلعثمي: زين كلّش (جيّد جدّا)... ثمّ تسألني سؤالا غريبا: أنت تحب خالة آية؟ فوجدتني أقول: لكن أنت مو (لست) خالتي... قالت بتماسك وكأنّني أحرجتها: أنا أكبر منك بسبع سنوات أو أكثر... وهذا معناه أنّني مثل خالتك... وقلت وأنا أهرب منها: أنا أحبّج (أحبّك).