كتبها: الاستاذان: أمين عثمان والكيلاني بن منصور حسين مردان، من تلك الوجوه التي اقترنت بالمرور والمضي ولكنها ظلت عالقة بذاكرة المؤلف، عبد الرحمان مجيد الربيعي، انها من تلك الوجوه التي تسكنه في حله وترحاله وفي ذلك يقول «هذه الوجوه علقت بذاكرتي حملتها معي الى كل منأى حللت به أتذكرها دائما وان سهوت عنها بعض الوقت فهناك ممن يذكرني بها». انها بالتالي من الوجوه الاستثنائية التي بقيت محفورة في الذاكرة لأنها تؤشر على مرحلة عمرية من أهم مراحل التاريخ الفردي، مرحلة الشباب خاصة التي اقترنت بالتكوين الأدبي والاختلاط بالاصدقاء وبداية تكون وعي فكري نقدي بالواقع الاجتماعي والأدبي في عراق الستينات والسبعينات. حسين مردان ينبغي تنزيله أجناسيا ضمن «البورتريه» باعتباره ينزع الى ترسيخ المواضعة المرجعية للنص بما أن التصريح بالاسم هو عمدة المواضعة المرجعية. ان البورتريه جنس له خصوصياته ومقدماته النوعية وهو في أدق تعريفاته «مقام نصي وصفي يبني شخصية يرسمها تتعلق بأنموذج بشري». فالبورتريه يقوم على البنية الوصفية الناهضة على التكثيف والدوران حول المركز، على خلاف البنية السيرية التي هي بنية تعاقبية تقوم على علاقات سببية سردية ترابطية متنامية. والرأي عندنا مسلمين بما خلص اليه (ميشال بوجور) أنه متى ثبت أن البنية منطقية فهي بورتريه ومتى ثبت أنها سردية فهي سيرة. فلا بأس من أن نزج بأنفسنا في خانة مواقف النص متابعين من خلالها تاريخ الشخصية الى اللحظة الخاتمة، لحظة الوفاة خصوصا وأن البورتريه وهو يتوخى سبيله الى الكشف عن سلوك جزئي موصول بالشخصية يتوسل بالبنية السردية بما هي بنية اختزالية لسيرة الشخصية في مواقف دالة موضوعها الشخصية. وهي لا تخص بالتبئير الشخصية في ابتعادها الكلية بل ان مدار تبئيرها وجه من وجوهها الا وهو دكتاتورية الشخصية، وهكذا فان بنية البورتريه بنية مختلطة يرد الوصف فيها مضمنا في بنية سردية. فهذه البورتريهات لا تعدو أن تكون ومضات سيرية تنطلق من الهوية الاسمية وتتنامى عبر القراءة مجذرة الشخصية في سياقها التاريخي والثقافي والاجتماعي، فالبناء السردي العام يقوم على نوع من التحقيب السردي لا يبدو من خلاله زمان واضح فأطوار الشخصية كلها تنزع في الواقع الى احتواء السمة التي نص عليها العنوان وهي دكتاتورية مردان الفريدة... فما هي المواضعة الحياتية والاجتماعية والسلوكية التي تساهم في اجلاء هذه الدكتاتورية باعتباره الهوية البديلة عن الاسم؟ مفهوم ان الشخصية المجردة مفهوم علائقي لا يمكن ان يفهم الا داخل علاقات سلطة أو داخل مجتمع عراق الستينات والسبعينات. فإمكانيات التأويل بالنسبة الى الشخصية محددة بوجودها البراقماتي النفعي أي أن هذه الشخصية تنزع الى تحقيق ذاتها ونحت كيانها في مستوى وجودها الاجتماعي. فاللقاء بين شخصيات هذا البورتريه متأت من كونها جميعا مثقفة ومن اندراجها ضمن سياق المؤلف الثقافي، وحتى العراق، هذا الفضاء الضمني الكبير إنما يستمد قيمته ودلالته بما هو فضاء حاضن للنخبة المثقفة الحالة بالمكان وهو ينتظمها ويؤلف بينها ويشكل افقها الابداعي. والبين الذي لا يحتاج الى برهان ان المؤلف عالج البورتريه بفسيفساء متمردة على أشكال البناء الأسلوبي التقليدية وصف / سرد / حوار... فكيف تجسدت أشكال التفاعل والتعاطي مع هذه الاساليب؟ نلمس محاولة للسيطرة على السرد تخفي وراءها ارادة إيجاد نوع من الموازنة بين السرد والوصف في هذه البورتريهات، إذ أن السرد موجود ليوسع مقامات الوصف، أما الوصف فوجوده كان للحد من نسق السرد. وتكتسي البنية السردية أهمية من تضمنها لمواقف دالة على الدكتاتورية في نوع من البنيات الثنائية. فاسم «حسين» ينفتح على السياق بوصفه حاملا لدلالة اثنية (اسم أثير لدى العراقيين) ولكن الاشكال يتبلور منذ وُصل الاسم باللقب «مردان» (وهو اسم نوع من الصراصير). فالهوية الاسمية تقف اذن على طرفي نقيض أساسها تفارق بين سياق اجتماعي تاريخي حضاري يشد الشخصية الى أصلها الوضيع المتهافت، وبين سياق نفسي يرتقي بالاسم الى أن يكون محل افتخار وعجب وتيه. وهذا لعمري مظهر واضح على دكتاتورية هذه الشخصية فضلا عن كون «عليوي»، هذا القروي المنحدر من قرى «بعقوبة» استطاع أن يلفت إليه الأنظار بطرافته المعهودة وحسه الفني الرفيع وتأسيسه لمذهب الصعلكة التي أساسها خرق منظومة الأخلاق والسلوك وأن يحول وجهة «بلندر الحيدري» سليل الطبقة البرجوازية الكردية ويجعله مقتفيا أثره في الصعلكة والدوس على الخطوط الجامدة والمرمر الصلب. ولعمري هذا وجه آخر من وجوه الفرادة الواسمة لهذه الشخصية. صفات إن هذه الصفات الجسدية التي يمكن توصيفها بالقبح وعدم القبول يقابلها صولة سلوكية واعتداد بالذات ومن هنا يتعالق الجدولان: جدول الصفات الجسدية prosographie وجدول الصفات الخلقية l'étopée وهذا التعالق يستند الى تناقض، وهذا التناقض هو الذي يؤسس لسلطة الشخصية المتمثلة في سيطرتها على عيوبها أولا، ثم في انتقال هذه السيطرة على الذات الى السيطرة على الآخر ثانيا. وهكذا تبلورت شخصية الدكتاتور من خلال تحويل هذه التناقضات الى فعل خلاق وتوتر ايجابي وكأن هذه التناقضات هي التي أفرزت ثورة على ما هو خارجي. إذن فهذه الشخصية هي شخصية «كارزماتية» ملهمة أمكنها طمس عيوبها مثل الاعاقة الاسمية والاعاقة النطقية ووضاعة الانتماء الطبقي وتصييرها الىمحاسن. فهذه الشخصية تتأبى وتتنكب عن أن تتأطر في القوالب المواضعاتية الاجتماعية والأخلاقية المحددة سلفا،وهي تتمتع بقدرة خارقة على اختراق المنظومات العقلانية والمنطقية وبامكانها ان تبني نسقا ذاتيا تعدل به عن كل الانساق العرفية المعهودة وأن تدافع عنه وأن تفرض على الآخر احترامه. إن السمة الآسرة التي تميز سلطة الدكتاتور انها محددة بحدود ما يسمى بالسلطة الضديدة Le contre-pouvoir وهكذا تنجلي محدودية شخصية حسين مردان، تلك الشخصية التي كانت دوما نرجسية متمركزة حول الذات المتضخمة المحتفية بفرادتها ومن مظاهر طرافة هذه الشخصية انتماؤها الى فرسان الليل، تلك العصبة البوهيمية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس فضلا عن كونه من المكثرين في التعاطي مع الأدب. وقد عرف حسين مردان امرأة عشقها واخذت عليه اقطار نفسه الا انها ضربت صفحا عن كل رجالات الفكر وفرسان الليل واعلنت انتصارها لقيمة المال في المجتمع بزواجها من رجل ثري ويبدو من خلال توصيف الراوي حدوث انقلاب في الأدوار فبعد ان كان مردان هو المتكلم والعالم كله ينصت اليه بآذان صاغية صار مستمعا في حضرة ربة السماء وبعد ان كان يدير العالم استحال مذعنا لارادتها منقادا لسلطتها عليه، يقول الراوي «وكانت تتعمد عدم النظر اليه الا بعد ان تهرس اعصابه في انتظار قد يطول» وهكذا يتضح ان موت حسين مردان موتان : الأول موت مجازي رمزي أحكمت شروطه ورتبت له هذه المرأة، والثاني موت طبيعي. لقد اكتشف حسين مردان الموت قبل ان يموت فعليا، فهذه المرأة الجهنمية هي الفضاء اللاواعي أمكن لمردان عبره ان يعيد انتاج أبعاد جديدة في ذاته، انها صورة الدكتاتور تستوي مسرحا تجسد الشخصيات على ركحه مأساة الإنسان مشكلة هزيمته أمام الالهة قدرا وحقيقة لا فكاك منها وإن هذه المرأة مجال خصيب لصحوة أصوات الضعف في نفس الدكتاتور معلنة حقيقة مفادها ومردها الا دكتاتور خلو من نقاط ضعف ومكامن هشاشة، انها تعبير عن انكسار اسطورة الدكتاتور على صخرة الواقع المعيش، مادام قدر الإنسان هو التأرجح بين الحيوانية والعلوية فلا هو بمنحط في بوتقة الغرائز والأدناس والأرجاس التي تسقطه في القاع الحيواني ولا هو ببالغ الملائكية وإن لم تخل سيرته من ارتقاءات في مدارج الفضيلة والمعرفة.