ليس من شك في أن الكدية كانت من أول الإغراض التي حدت ببديع الزمان إلى كتابة مقاماته، وأصحاب الكدية قوم يتجولون في البلاد المختلفة والأمصار المتباعدة يتكسبون بالأدب تارة وتارة أخرى يحتالون بحيل ملفقة وأكاذيب مخترعة.فالكدية لم تكن أمرا هّينا ولكنها علم وفن ودراية ومران ودربة وتلقين، فلها أصولها التي لابد من إجادتها حتى يصير المرء مكديا ناجحا. ومن جوهر الكدية يخلق الدرغوثي في الجدار العالي نصا مفارقا لطبيعتها(الكدية) مع أبي الفتح الاسكندري الذي يمثل جماعة الشطار والعيارين من المهمشين في مجتمع القرن الرابع والذين تجاهلهم الواقع السياسي فنبذهم الواقع الاجتماعي. ومثلما سلطت المقامة الضوء على هذه الفئة المهمشة من خلال المغامرات والمواقف التي يتعرض لها أبوالفتح الاسكندري ويعرّض لها مرافقه عيسى بن هشام، حاول الدرغوثي في أقصوصته أن ينبه إلى فئة المهمشين في عصره الحاضر، فليسوا من العيارين أوالمحتالين الذين يتسولون لقمة ولكنهم جماعة المثقفين والمتعلمين الذين غفل عنهم الواقع فأصبحوا منبوذين اجتماعيا، يتسولون حقهم في احتلال منزلة في الواقع وربما هي إحدى منازل الكلام التي أراد أن يخرجها الكاتب قضية واقعية يعاني منها سوق الشغل في العصر الحديث. ففعل التهميش في الجدار العالي مفارق لمعنى التهميش في المقامة فالفعل الأول نتيجة منطقية لتردي الواقع الأخلاقي لأن الكدية تتجاوز المباح والمحظور واقعيا ودينيا لتحقيق الغاية، في حين بدا فعل التهميش الثاني في الأقصوصة نتيجة عدم مبالاة السلطة الحاكمة بقضايا المثقفين من الشباب فكانت نتيجة الإقصاء الاجتماعي العزلة أوالخوض في غمار الحياة الاجتماعية من أبواب عدة، المفتوحة منها والموصدة. وهوما يظهره الجدول التالي: المقامة: الحيلة قناع لتسول حق اجتماعي (مستوى معيشي يوفر ضرورات الحياة) الأقصوصة: الحيلة قناع لانتزاع منزلة اجتماعية تليق بمثقف همشه منطق المصلحة الخاصة. يبدو من خلال هذا الجدول أن الكاتب بتدخلاته السافرة يحاول أن ينبه قارئه إلى الحيلة الشكلية والمظهرية التي يتخفى وراءها الشاب في الأقصوصة، فقد تكون قارورة العطر التي يحملها وطريقة مشيته العسكرية أقنعة شكلية تكمل المظهر الراقي الذي يتطلبه منه المقام ولعل السيارة أيضا جزءا مستعارا يكمل به الصورة الواقعية المترفة، لأن الكاتب وان لم يصرح فقد لمح إلى وظيفة السيارة المظهرية حيث قدم للقارئ جزئيات متناثرة في أرجاء نصه هي بمثابة الآثار التي خلفها السرد للقارئ ليترك له مهمة تركيب الصورة التي مثلت نوعا جديدا من الكتابة التي تعتمد التشظي عند الدرغوثي، فيجب عليك كقارئ حصيف أن تتبع كل خيوط الحبكة القصصية لتنسج بنفسك سداة نصه التجريبي الذي لا تحد معانيه ودلالاته الرمزية حدود كتابية أوشفوية، بحيث تصبح الكتابة مع إبراهيم درغوثي نوعا جديدا من التكدية تجاه القارئ عندما يرجئ الكشف عن مصدر حكايته ولا يبدأ أقصوصته بالسند على غرار المقامة- كما رأينا أنفا- ولم يعد عنصر الكشف خاصا بشخصية المكدي وإنما كشفا جديدا عن حقيقة الشخصية الراوية للأحداث «هاوالصحيح سأقص عليكم أجمل القصص» بشكل يصبح معه الدرغوثي مكديا يخدع القارئ بحيلة كتابية تترجم عن دراية وخبرة بدستور القص وقوانينه، فيوهمه بأنه يقرأ قصة قصيرة يعرف بأبطالها منذ البداية، لكن سرعان ما يكشف مناورته ويجد نفسه أمام أسلوب سردي تراثي يعتمد فنيات الخبر في السرد القصصي، فيفك إلغاز تلك الإشارات العامية الحافة بمسار السرد والتي تؤكد حضور الراوي في كل مراحل القص ليصف فعلا قامت به الشخصية عن غير قصد، أوليعلّق على موقف أوسلوك لم يعجبه بدر منها كلما شارفت على الجدار العالي (قضاؤها وقدرها) حيث الفوز أوالفشل والحزن أوالفرح. يكشف القارئ كلما اقتفى اثر الدرغوثي في مسار سرده أنه يعيش لعبة فنية هي أقرب إلى رقعة الشطرنج التي يمسك الكاتب بأصول قواعدها، مما يجعل القارئ متشوقا أبدا لتتبع قصّه وهويحرّك فيه ملكا إلى مربع آمن أويرقّي جنديا ليحلّه محلّ وزير أورخّ حسب التنظيم الشطرنجي المقنّن الذي ينير فيه الدرغوثي مواقف شخصيته المتتبعة لخطواته السردية في غير وعي بما ينتظرها من تلاعب بها في حركة القصّ. الأقصوصة ص:10 الشطرنج لعبة قديمة تتكون من مربعات(64 مربعا) ولها قواعد يجب إتباعها ومن قطعها: الملك الذي يجب أن يحرك للمربع الآمن والجندي الذي يعتبر اصغر القطع قامة وقد يحول كلما تقدم اللعب إلى وزير أورخ وهي أيضا بقية العناصر المكونة للعبة الشطرنج.