2-1-3 لغة المقامة- لغة الأقصوصة: إن علاقة الجدار العالي بفن المقامة لا تقتصر على المستويات الفنية السابقة، فللغة التراثية حضور لا يمكن إغفاله، فلم تستدع الأقصوصة غريب اللفظ أو وحوشيه وإنما استعانت بمنطق الشرح والتفسير الذي كان إحدى خصوصيات المقامة . وتنبثق المجاوزة الدرغوثية للغة المقامة التراثية من هذه الانزياحات التي تتقنع فيها لغة الأقصوصة بأساليب كتابية قديمة تفسر بعض ما رآه الكاتب مُلغزا في نصه كقوله شارحا كلمة «القوريل» «والقوريل يا سادة هو مخلوق ينحدر من جنس القرود التي عاشرت إنسان النياندرتال منذ أكثر من ثلاثة ملايين سنة حسب تقويم علماء الانتروبولوجيا الكفار الذين خالفوا ما جاء في توراة بني إسرائيل التي تتحدث عن خلق آدم أبي البشر أجمعين وتعود به إلى خمسة ألاف سنة». إنّ المتتبع لهذه النتف المستدعاة شواهد تؤكد نزعة الدرغوثي في جعل اللغة وسيلة للتعبير عن الواقع بأشكال مختلفة، ذلك انه لم يتزيا بلبوس الهمذاني البلاغي بل اجترح بلاغته القصصية من ثقافة واقعه المعاصر فكانت اللهجة العامية التونسية نوعا جديدا من اللغة يمكن أن يعبر عن رؤى الكاتب ويسهل على القارئ سبل تلقي الخطاب في يسر ودونما عسر كما في الأمثلة التالية «يعني يرجع امنين جا» «يعني جوف الرجل الذي تقدم ناحية الرمحين»أو «تنقدح نار عند تقاطع الرمحين...(كيف التريسيتي)»إلى جانب لغة الفصاحة ممّا يؤكد ظننا بان بلاغة الدرغوثي هي بلاغة لغوية صرفة يتشكل وفقها البناء السردي (الفصيح – العامي) في تضافر مستمر تعضد فيه اللغة الفصيحة اللغة العامية لتولد لغة الأقصوصة لغة فصيحة تعبر بالسائد العامي من الكلام لإمتاع القارئ بدلالات رمزية قد لا يستطيع فضا لمغزاها ومدلولاتها. ولعل الممعن في الجدار العالي يتأكد كلما انساق وراء الدلالات القصصية المعاصرة يلاحظ أن الدرغوثي على وعي بأنه لا يسعى إلى كتابة مقامة بل قصة تنهل شكلها الفني ممّا حفظته بطون أمهات الكتب من أساليب كتابية شكلية موروثة وما مكنته منه لغته العامية الواقعية من إمكانات تعبيرية تجذّر النص الأقصوصي في واقعه. وبالتالي يكون التمازج والتفاعل بين اللهجات تقنية فنية مستحدثة لا يستغلها الكاتب لعجز في الإلمام بقوانين السرد الحديث أو لعقم في التخييل، إنما كان ذلك تجربة واعية يستلهم فيها أصول القديم لينطق بالحديث المبتكر للتعبير عن قضايا الواقع الذي أصبحت الكتابة فيه تنشد مستوى جديدا من فن القص، ألا وهو المستوى التجريبي الذي توكل فيه الحرية لصاحبها حق التعبير عن رؤيته وفق خطة كتابية عصرية تتفاعل فيها الأنواع الأدبية واللهجات، حتى لكأنّنا نقف من جديد أمام تجربة أبي نواس وهو يعارض ذكر الطلل الجاهلي وينادي بنبذه في الكثير من مواطن شعره كما في قوله الآتي: عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد يبكي على طلل الماضين من أسد لا در درك قلي من بنو أسد ومن تميم ومن قيس ولفهما ليس الأعاريب عند الله من احد ولكن إبراهيم درغوثي في كتابته القصصية لا يضحى نواسيا أخر يرمي بتقاليد الكتابة القصصية عرض الحائط لأنها حصيلة تاريخ عربي وتونسي طويل في الكتابة النثرية، لذا تراه لا يعوج شان النواسي على رسم أسلافه في البناء السردي القصصي ، بل يطعّم هذا النوع من الكتابة بأسلوب واقعي مستحدث ينهل من العامية بساطتها لمخاطبة كل أصناف المتلقين قراء كانوا أم سامعين، فيأتي بذلك أدبه نوعا جديدا يخرج عن بوتقة الفصاحة لمخاطبة كل العقول، الشيء الذي يجعل من فنه القصصي رسالة موجهة إلى كل الفئات الاجتماعية دون الاقتصار على طبقة النخبة المثقفة. وهنا مكمن الإضافة الدرغوثية الساعية في كل تجربة إبداعية إلى إثبات نواميس وطقوس كتابية خاصة بها في لغة عربية فصيحة و أخرى عامية دارجة وثالثة مترجمة تستوعب كل اللغات العالمية، وتبشر بنوع جديد في القص لا يقرع نواقيس الأدب التونسي أو العربي، بل ربما تصبح كتابته دعاية جديدة للكتابة القصصية العالمية. 2-2 أسلوب المقامة الساخر: لئن كانت لبديع الزمان قدرة وكفاءة على بعث الفكاهة وانتزاع الضحك من أعماق القلب ، فقد لمسنا طرفا من هذه الفكاهة المشوبة بأسلوب ساخر في جدار الدرغوثي العالي التي تلاعب في تضاعيفها ببطله، تلاعب الهمذاني بعيسى بن هشام وعرضه لمواقف محرجة لا يستطيع لها تجنبا إلا بحيلة أو كدية منمقة ، فحتى وان ادعى النجاة وتنصل من بعض مآزق خالقه (إبراهيم درغوثي(الكاتب)/ الهمذاني(الراوي))، فان مصير حيله دائما هي الكشف، ممّا يظهره بمظهر المغفل الغافل عما يدور حوله وقد اسقط في يده بسبب الصورة التي رسمها له صاحبه في حدود قصه. وقد آن الأوان لنستعرض بعضا من هذه المواقف التي تتجلى فيها المواشجة بين الأسلوب الساخر القديم والمضمون القصصي الحديث في الجدار العالي التي باتت لغتها صدى لتمازج البلاغة التراثية بسلاسة وبساطة المعاني الواقعية ذات الدلالات الإيحائية المفعمة رمزا. فكيف بدت الجدار العالي لونا قصصيا ساخرا؟