ان بطل الدرغوثي أيضا يطل على عالم سرمدي تشوبه أهوال تشيب لها النواصي، وهي ذات الأهوال التي أرعب بها المعري ابن القارح عندما أضمر له الشّر فجعله يعاين شدة النار واثر هولها في نفوس نزلائها ليفاجئه بضياع جواز دخوله الى فضاء الجنان واحتمال خلوده في جحيم الرحمان جزاء وفاقا على نفاقه وادعاء توبة هي في الأصل غطاء ساتر لدواخله الدنيئة ويهيئ له الطريق للاستقرار في أحضانها المتأججة الحارقة. ان المتطلع في هذا الشاهد رغم طوله يتفطن الى كرّ الدرغوثي وفرّه في تخيّر من المواقف القديمة أقربها الى روح نصه القصصي ومن المعاني أدلها ليبعث بطل أقصوصته من رميم المغامرة العلائية فيحي ابن القارح من جديد في ملامح عصرية هي ملامح شخصيته القصصية ، فاقترب من جهنم المعري ليصور جهنم الواقع، أين تجمعت الخلائق من الشباب والرجال المحترمين لاستخلاص ثمن وقفتهم الطويلة أمام الجدار العالي بؤرة الأحداث مع واقع القيامة في اليوم الأخر ، هذا اليوم الذي لم يستحضر الدرغوثي هوله ليذكر المؤمنين بحقوق دينهم عليهم قصد أن تنفعهم الذكرى، لأن هذا الهول نتجت عنه صورا عصرية جديدة توافق مقام الشخصية ، فلم تعد الخلائق تغرق في العرق حسب فعلها الدنيوي خوفا من الحساب كما جاء في الكتب ، ولكنه اخرج هذا المشهد القصصي مشهدا حدثيا ناطقا يقترب من حدود الفن المسرحي فتصبح نهنهات الرجال وولولتهم وعويلهم نغمة موقعة لجوقة مسرحية تنعى بطلا مأساويا تكتمل بحضوره التراجيديا الدرغوثية في أفق واقعي شابت له الرؤوس نفسيا بسبب تحديد المصير واقتراب الأجل المحتوم في حضرة حارس مدخل البناية الذي بدا ملك الموت الموكل بانتزاع الأرواح بالنظرات القاسية المتطلعة لجماعة المتجمعين، مما زاد الموقف هولا نفسيا تتراءى فيه الخلائق سكارى وما هم بسكارى ولكن تسلط الواقع مرير، وتعسف الدرغوثي على بطله في هذه اللحظات اشد مضاضة من ظلم ذوي القربى ووقع الحسام المهند، باعتباره خالقه ومالك زمام أموره، فلم لا يرأف بحاله ويسارع في قضاء القدر ويريحه من عناء هذه المقابلة التي تنحني الجباه؟ للاجابة على هذا السؤال نردف أنها الكتابة الدرغوثية التي لم يعد فيها القاريء مطالبا بتأويل الدلالات القصصية واستقراء دوالّها،لأن الكاتب أوكل المهمة لنفسه في هذه اللحظة فحضر شاهد عيان يعاين ردود فعل الشخصية تجاه مناورات الحياة الواقعية في كل موقف تقفه وكل مأزق تتعرض اليه في فضاء قصه الحديث، معترفا بأهمية الدور الجديد الذي يضطلع به لا كممثل على خشبة المسرح منتظرا تصفيق الجمهور، بل كقاص وكاتب يتبع دروب كتابته بين ثنايا سطورها الايحائية والرمزية. يقول الدرغوثي مموقعا نفسه في مدخل البناية الضخمة ومصاحبا بطله ليكون شاهدا عليه لا مساندا له «وانأ اي ابراهيم بن محمد الدرغوثي بلحمه وشحمه أراقب المشهد من بعيد ، رأيت أن عدد الداخلين الى بناية الجدار العالي المذكور آنفا قليلا جدا مقارنة بعدد الواقفين في الصف الطويل طول يوم القيامة». يبدو مما تقدم أن السخرية في الجدار العالي سخرية سوداء تلوم الواقع المعاصر على تعسفه تجاه أبنائه فظهر الواقع جلادا تنزف أنيابه دما آدميا لطّخ جباه هذه الفئة المهمشة من المثقفين التي بدت بدورها كبش فداء لقيم جديدة غزت الواقع ومبادئ عصرية أساسها الوساطة والتملق والوصولية كما في المشهد الدرغوثي التالي «ويواصل الصف التقدم نحوالباب يتواصل الذبح والسلخ وشيّ اللحم والعياط والشياط والبكاء والنهنهة». ومع تقدم الصف يتقدم القص نحونهايته ليبرز أن سخرية المواقف القصصية هذه لم تكن وليدة الواقع المتغطرس على رعيته فحسب، وانما وليد احساس الشخصية المتفاقم بالذل والهوان، فترجمت أفعالها دواخل هواجسها ونطقت مشاعرها بما أحسته من ظلم واقعي في لحظة استقامت حياة بأكملها، لحظة تقرير مصير، فلا علاقة للفرد مثقفا كان أوأميا بواقعه الا من خلال منزلته الاجتماعية وهي احدى منازل الدرغوثي الكلامية المقصودة. فللانسان من منظوره الحق في اثبات ذاته، وترسيخ قيم ربُي عليها وآمن بها، فما جدوى حضوره في واقع لا فعل له فيه سوى انه مفعول به وفق استرايجية ممنهجة ينسجم فيها التخطيط السياسي بالتقعيد الاجتماعي؟ يحس القارئ وهويتأهب الى مغادرة فضاء الجدار العالي القصصي أن الدرغوثي يروم من خلال محاولاته الاستقرائية للخلل الذي يكتسح الواقع أن يلمح الى أهمية احترام الذات الانسانية وعدم تهميشها ، فهذا الفعل الاحترامي لحظوظها ولهيبتها من شانه أن يفيد الواقع على اختلاف مستوياته. ومن شانه أن يفيدها أيضا باعتبارها ذاتا مبدعة خلاقة بامكانها أن تعتمد على ثقافتها وموهبتها لتصنع واقعا راقيا تنتزع منه احترامها ما دامت الثقافة موجودة. والقدرة الحقيقية في نظر الدرغوثي هي تجاوز مثل هذه المواقف التي تعتمد الشكل والمظهر قناعا وصوليا لاخفاء العيوب التي أصبح يتكل عليها شبابنا اليوم، فأبواب الحياة حسب رؤيته القصصية متعددة ومشرّعة لمن يريد اقتحامها ولكل من ينبذ التواكل ويحبذ أن يصنع حظه بنفسه، حتى لكأنه يحاول تصحيح مقولة الحظ العاثر التي يرفعها جيل اليوم شعارا زائفا لفشله اللاواقعي لينقش له شعارا جديدا بخط غليظ على جداره العالي ليبدوواضحا للعيان من السامعين والقراء» أيها الانسان ليس من حقك أن تشكومن سوء حظك، فباجتهادك تقدر على صنع حظك بنفسك وانتزاع وتشرع أحقية وجودك في المجتمع وفي الحياة ، المهم أن تحدد منهجك وتنتقي وسائلك الثقافية والمهارية لتصل الى غاياتك فتحقق أحلامك ومطامحك فتنتفع وتنفع وتفيد وطنك وتستفيد من خيراته». ٭ انتهى ٭ الاقصوصة، ص:14