الكتابة المنتصرة للهويّة: ليست الكتابة ترفا أوتسلية، الكتابة مأساة أولا تكون على حدّ تعبير الأديب التونسي محمود المسعدي، ومأساة الكتابة وكتابة المأساة مرآة للأقلام ... الناسلة من رحم الهمّ الذاتي والموضوعي، فالسياسي والوجودي والقيمي والحضاري أشياء تنطلق منها الكلمة وإليها تعود . ومصائب الأمة جمّة ولا تكاد تحصى وعلى من نصّب نفسه صاحب فكر ورؤية وموقف وقلم أن يتمثّلها مبنى ومعنى... وبالتالي... أن يكون مثقّفا عضويا بامتياز يدافع بفكره عن أمته وهويتها وكيانها المهدّد في كل حين من قبل ريح جهنّمية نسميها تفاؤلا العولمة ... فدور الكتابة ريادي في مجال ترسيخ ثقافة الاختلاف لا ثقافة الخلاف الرائجة منذ زمن في مفاصل أمتنا، وعليه فالكتابة وتد من أوتاد الإنيّة الذاتية لأنها هي الحامية لخصوصية شعب من الشعوب وإن فقدت الكتابة هذا الدور أصبح وجودها نافلا (٭) والتمسّك بعمود الشعر والانتصار للحظة المنبريّة، والتشبث بما يكون به الشعر شعرا (وزن ومعنى وقافية) هوعنوان للهويّة . فبالشعر يعلن الشاعر عن تمسّكه بالموروث ردّا على رياح التغريب وثقافة الانسلاخ، إذ اللحظة الشعريّة لديه هي لحظة يكشف فيها عن ملامحه الحضاريّة ويحدّث فيها عن أيام اعتلت فيها أمته سدّة الوجود ويستدعي فيها أيام النصرولعلّ ما جاء على لسان جمال الصليعي في قصيدته “عروج” يدّل على ما ذهبنا إليه : أعددن مرتفقا للروح ذا سعة ٭ ٭ ٭ لومدّت الأرض لم تشغل به طرفا سماؤه من عليّ الحلم حبكتها ٭ ٭ ٭ وأرضه راسيات الحزم متصفا هواؤه ملتقى الأشواق ينسجه ٭ ٭ ٭ وماؤه من عيون الوجد قد غرفا ثماره أوقطوف الخصب دانية ٭ ٭ ٭ ورائق من ظلال الخير قد ورف أطفن بالنفس يستجلين منغلقا ٭ ٭ ٭ من الصدور فلم يغنمن مقتطفا صدرن عن منهل النجوى بلا بلل ٭ ٭ ٭ وعدن من قائل الذكرى وما اعترفا يئسن من مذنبات الصمت ما نبست ٭ ٭ ٭ ولا كشفن لطيّات الجوى صحفا فقلن أدرك جناح البوح مرتحلا ٭ ٭ ٭ إلى معارج أعيت قبل من عرفا كنّا سمعنا حديثا عن مصاعدها ٭ ٭ ٭ ولم تر العين من أفيائها كنفا بل حدثت فلتات الشوق عنعنة ٭ ٭ ٭ أخبارها وروت أسرارها كلفا كانت تجيء رياح الطيب مثقلة ٭ ٭ ٭ من أرضها فعلقنا طيبها شغفا مرّ المحبّون أفواجا إلى غدها ٭ ٭ ٭ ولم يعودوا وخلّوا أمسهم ترفا كأنما زمن فيها بلا زمن ٭ ٭ ٭ أوكانت الأرض غير الأرض مختلفا فلم تدحرج متى فيها ولا سألوا ٭ ٭ ٭ عن أين، أين ولا ابتاعوا بها صدفا ولم يعب قائل فيها بقولته ٭ ٭ ٭ ولم يدن شاعر فيها بما اقترفا لا ندّعيها ولا نأتي مراكبها ٭ ٭ ٭ لعلّ مثلك موف عندها نتفا شغفنني بحديث ما له شبه ٭ ٭ ٭ من الحديث وسحر بعد ما وصفا كأنّ شقّ نجاة شقّ في جدر ٭ ٭ ٭ من الظنون وسترا فضّ فانكشفا دعوت أدنى جناح البوح معتذرا ٭ ٭ ٭ أنّي أطلت بقائي ههنا سرفا لعلّ أرضا بلا سوء أجاورها ٭ ٭ ٭ فجيرة السوء أضنت جيرتي أسفا أمرّ من صحبة رأسي تجارتهم ٭ ٭ ٭ لصحبة لم تبع ودّا ولا شرفا ركبت جارح طيري عند مزدحم ٭ ٭ ٭ من الشجون بأرض طيرها ألفا وقام بيني وبين الناس لي رصد ٭ ٭ ٭ من الرماة أقاموني لهم هدفا لا يسمعون خرير الخصب في سحبي ٭ ٭ ٭ فقلت في مسمع الأيام بعض كفا سيعلمون متى غابت قوافلنا ٭ ٭ ٭ بأيّ همّ قطعنا قفرهم لهفا هذي بقية شكوى في حناجرنا هل يدركون بإذن الموت ما عزفا حملت شكي، يقيني، ثقل مشغلتي وجئت أرسف في فوضاي معترفا كنّا على البوح مهموما وقافية وخافقا لم يزل يهتزّ مرتجفا في ظلمة من غبار الشك مطبقة لولا اليقين لضع الركب واختلفا مولاي خلقك جبارون في وهني ولست أملك غير القول منصرفا أريد هارون عن صدري على شفتي لكي تعانق لام العزة الألفا مولاي خلقك أغلال على حلمي فكيف أفلت بالأحلام منتصفا وكيف أفرق بحر الشك يا سفنا جرت بها الريح عن شطآنها جنفا ولا عصاي معي كي أتقي تعبي ولا أهشّ على حالي بها تلفا ولا لساني مفتوح على وجعي ولا أخي حاضر أملي له الصحفا وحين “ألقوا” سعت وهما حبالهمووخيّلت لي، مددت الكفّ مرتجفا لولا هواتف ملء النفس زاجرة لكنت أشبه من ألقى ومن لقفا رددت كفّي على جرحي واسعدني أني وجعت لجرحي كلما نزفا حملت شكي، يقيني، ثقل مشغلتي ولذت أركب موجي حائرا تلفا وكان خلفي ملوك، خلف صولتهم غواصب الفلك إمّا فلكنا انعطفا سألت عنهم قرانا، قيل مذ دخلوا وهم على العادة الأولى، هوى ووفا أويت للطور، كان البرد في حلمي وكنت أعرف دفء الطور والكنفا ثنيت روحي على أعتاب عزته فكفكف القلب من أوجاعه وكفا سمعت خلف هجوع النفس غمغمة عرفتها وعرفت القوم والهدفا كانوا يمرون تحت الليل همهمة ووقع خطووصوتا لاهثا وجفا وكنت أسكب أمن النار في بدني وكنت تحت جناح الطور ملتحفا قل فالهثوا بعد هذا الليل موعدنا تنفّس الفجر يا أوهام وانكشفا نحن المحبين لم نغلب كما زعموا ولم نبدل ولم نسلم لهم شرفا. الخاتمة : لا يعيش الشاعر بمنأى عن التغييرات الحضاريّة، وما الشاعر بكائن مفارق، بل هوخليط من الذاتي والموضوعيّ، تقف وراءه ذاكرة قرائيّة وقيميّة ومعرفيّة وتراثيّة وتاريخيّة . يعيش أسئلة العالم الحارقة فيتمثّلها ويستبطنها وتفعل فيه فعلها، واللغة التي هي أداته لرسم عوالمه ليست بريئة بل تحمل بين ثناياها رؤية للعالم وللوجود وبالتالي لهويّة الشاعر الهوامش: ٭ انطولوجيا القول الراغب والإناسة المظفّرة : محمد الحبيب الرويسي – كتابات معاصرة عدد 62ص 51