بعد دعوته الى تحويل جربة لهونغ كونغ.. مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد    أبطال إفريقيا: التعادل يحسم الشوط الأول لمواجهة الترجي الرياضي وصن داونز    التعادل يحسم مواجهة المنتخب الوطني ونظيره الليبي    طقس الليلة    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا وجاري العمل على تسهيل النفاذ إلى هذه السوق    سيدي بوزيد: ورشة تكوينية لفائدة المكلفين بالطاقة في عدد من الإدارات والمنشآت العمومية    بودربالة والسفير الإيطالي يؤكدان ضرورة تكثيف الجهود لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية تعزيزا للاستقرار في المنطقة    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة ويساعد على القيام بمهامهم دون التعرض الى خطايا مالية    بنزرت: ضبط كافة الاستعدادات لإنطلاق اشغال إنجاز الجزء الثاني لجسر بنزرت الجديد مع بداية الصائفة    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    منوبة: الاحتفاظ بصاحب مستودع عشوائي من أجل الاحتكار والمضاربة    وزارة التجارة تقرّر التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    أحدهم حالته خطيرة: 7 جرحى في حادث مرور بالكاف    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    رقم قياسي جديد ينتظر الترجي في صورة الفوز على صن داونز    تم انقاذها من رحم أمها الشهيدة: رضيعة غزاوية تلحق بوالدتها بعد أيام قليلة    معتز العزايزة ضمن قائمة '' 100 شخصية الأكثر تأثيراً لعام 2024''    عاجل/ في ارتفاع مستمر.. حصيلة جديدة للشهداء في غزة    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة دكتوراه عن: أحمد مطر.. شاعر الرفض السياسي الذي جاء إلي العالم ليعترض
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 04 - 2008

شعرية السرد في شعر أحمد مطر عنون رسالة دكتواره للباحث عبدالكريم السعيدي الذي نال بموجبها درجة الدكتوراه في الأدب العربي من كلية الأداب بجامعة الكوفة العراقية.
رسالة دكتوراه عنه بجامعة الكوفة تؤكد أنه ينتمي إلي مدرسة البساطة والسهولة مثل نزار قباني
الراية متنفسه علي العالم الآن بعد أن نحرت الرقيب علي اعتاب لافتاته إكراماً للحرية
تعثر في الدراسة بسبب الفقر وقسوة الحياة فلجأ إلي الكتاب والقراءة ودخل دائرة السياسة مرغما
رفض طلبا لمحافظ الكوت بإلقاء قصيدة باحتفالات تموز خلال أدائه خدمة العلم فدخل السجن
موهبته الأدبية بدأت تتلألأ وهو في المدرسة المتوسطة
لجأ الي الكويت وعمل ب القبس ثم انتقل إلي لندن عام 1986
شكل توأمة الكلمة والصورة مع ناجي العلي.. وله موقف سلبي من شعراء الحداثة لاسيما أدونيس
شعرية السرد في شعر أحمد مطر عنون رسالة دكتواره للباحث عبدالكريم السعيدي الذي نال بموجبها درجة الدكتوراه في الأدب العربي من كلية الأداب بجامعة الكوفة العراقية.
ننشر جزءا من تلك الرسالة التي تقدم رصدا دقيقا لمسيرة هذا الشاعر الكبير ومعاناته التي خلقت منه شاعرا عربيا بارزا رافضا للواقع السياسي العربي المعاش ومنتفضا علي الظلم والكبت والقهر والديكتاتوريات رسالة الدكتوراه تشير الي ان الراية أصبحت هي المتنفس الوحيد الآن لأحمد مطر علي العالم حيث تنشر لافتاته الشعرية ويعد هذا النشر والاحتفاء به اكراما للحرية.
هذا الجزء من رسالة الدكتوراه يلقي الاضواء علي جوانب مهمة من حياة أحمد مطر الشخصية والشعرية وتكشف أسرار نبوغه وتلألئه منذ صغره فإلي التفاصيل:
أحمد حسن مطر، أو يوسف كما كان يطلق عليه إخوته نظرا لجماله وبهاء طلعته وطول قامته وتعلق والده به هو الابن الرابع بين عشرة إخوة ؛ خمسة من البنين ومثلها من البنات، ولد عام ( 1950 ) في كنف عائلة ينتهي نسبها إلي الأمام موسي بن جعفر الكاظم ( ع )، ولد في التنومة مركز قضاء شط العرب وتقع علي ضفة شط العرب في البصرة والتنومة كما يصورها الشاعر نفسه، هي بقعة من الأرض تتسم بطيبة أهلها، فضلا عن فقرهم، تطرزها الأنهار والجداول، و بساتين النخيل التي لم يكفها الإحاطة بالقرية من جوانبها كلها، بل راحت تقتحم بيوتها إلي حد يندر فيه أن تجد بيتا من بيوتها لا تتوسطه نخلة، حتي صارت تلك البساتين كبستان صفية والأنهار كنهر الشعيبي من المعالم التي ارتسمت في مخيلة الشاعر الذي عاش طفلا وصبيا في هذه الربوع فارتسمت في ذاكرته منها صور ومشاهد ظلت خالدة في نفسه، ولنا أن نتخيل كما يقول الشاعر ما لهذه البيئة من اثر في نفسه، ولاسيما إذا أضفنا إليها مسحة الحزن العراقي الأزلي، فسوف نخرج بمحصلة ندهش معها إذا استنطقنا حجرا هناك ولم ينطق شعرا.
انتقلت أسرة الشاعر إلي محلة الأصمعي وهي إحدي محلات البصرة وكانت تسمي في بداية إنشائها ب ( الومبي ) نسبة إلي اسم الشركة البريطانية التي بنت منازلها، ولعل من الطريف القول هنا إن أحمد مطر غالبا ما كان يردد : (( من الومبي للومب لي )) في إشارة إلي اسم المكان الذي حل به من بريطانيا، وفي(الأصمعي) أكمل أحمد دراسته الابتدائية في مدرسة العدنانية، ولشدة سطوة الفقر والحرمان عليه قرر تغيير نمط حياته لعل فيه راحة له وخلاصا من ذلك الحرمان، فيسارع للانتقال إلي بغداد، وبالتحديد إلي منطقة الزعفرانية ليعيش في كنف أخيه الأكبر ( علي )، فيها دخل المدرسة المتوسطة، وفيها راحت عبقريته وموهبته تتلألأ مرة بقصة قصيرة وأخري بمقالة وثالثة بمسرحية يؤديها مع زملائه علي خشبة مسرح المدرسة، أو لوحة يرسم عليها رسوما كاريكاتورية أو لوحة يخط عليها آية من آيات الكتاب المجيد فجعله هذا وغيره محط أنظار زملائه ومدرسيه، وعلي وجه الخصوص بعد فوزه في عدد من المسابقات المدرسية التي أقيمت في هذه الفنون . أما موهبته في الشعر، فان أول قصيدة كتبها وهو في الصف الثالث من هذه المرحلة، وكانت تتألف من سبعة عشر بيتا، ومن الطبيعي ألا تخرج تلك القصيدة عن نطاق الغزل والهيام وهو أمر شائع ومألوف بين الناس لصبي أدرك منذ أدرك أن الشعر لا يعني سوي الوجد والهيام والدموع والأرق، وكان مطلع القصيدة :
مرقت كالسهم لا تلوي خطاها ليت شعري ما الذي اليوم دهاها
وإذا نظرنا إلي القصيدة نجد سبكا اكبر من سنه، وهذا لا يتهيأ فنا ورصيدا لصبي ما زال مخزونه اللغوي والفني في طور التشكيل، وفد عرضت تلك القصيدة في حينها علي أحد المختصين فلم يصدق أنها لطالب ما زال في المرحلة المتوسطة، ثم راح أحمد مطر يكتب القصائد في ذكري المواليد مولد الرسول الكريم (صلي الله عليه وسلم) والإمام علي ( ع ) ، ومما كتبه بهذا الخصوص وهو في هذا السن، أي مرحلة المتوسطة قصيدة مطلعها :
راحت تحاورني وتسكب همسها
نغما رقيقا يستفيق علي الفم
وجاء فيها قوله :
ومشاعر تكبو تخط سماحة
فتقول : ( رائعة فضربة لهذم) .
وأحمد مطر هنا يشير إلي قصيدة الجواهري ( رسالة إلي أبي هدي ) وهي قصيدة نشرتها جريدة الثورة تحت عنوان رائعة الجواهري، ومطلعها (( نبأت أنك توسع الأزياء عتا واعتسافا ))، وفيها يعاتب الجواهري وزير الداخلية في حينها ( صالح مهدي عماش ) علي منعه الملابس النسائية القصيرة، وعلي إنشائه شرطة الآداب التي راحت تحاسب من يرتدين هذه الملابس .
وبسبب قسوة الحياة والظروف القاهرة التي كان يعيشها، تعثر في دراسته، فأحبط فلجأ إلي الكتاب هربا من واقعه، فزوده برصيد لغوي انساب زادا لموهبته، ويضاف إلي الكتاب الأحداث السياسية التي كان يمر به وطنه، وهو أمر جعله يلقي بنفسه في دائرة السياسة مرغما، بعد أن وجد أن الغزل والمواليد النبوية لا ترضي همته،فراح يتناول موضوعات تنطوي علي تحريض واستنهاض لهمم الناس للخلاص من واقعهم المر، وفي هذا الصدد يقول الشاعر : ألقيت بنفسي مبكرا في دائرة النار، عندما تكشفت لي خفايا الصراع بين السلطة والشعب، ولم تطاوعني نفسي علي الصمت أولا، وعلي ارتداء ثياب العرس في المأتم ثانيا، فجذبت عنان جوادي ناحية ميدان الغضب))، فذاع صيته بين الناس، وهو أمر جلب له ألما وسجنا، ويذكر انه سجن في مدينة الكوت في أثناء تأديته لخدمة العلم، وذلك بعد رفضه طلبا لمحافظها (محمد محجوب) بإلقاء قصيدة بمناسبة احتفالات تموز، فما كان من أحمد مطر إلا أن نظم قصيدة وهو في سجنه يخاطب فيها لائميه يقول مطلعها : ((ويك عني لا تلمني فانا اللوم غريمي وغريمي بأسي))
في هذه الفترة رزيء بفقد شقيقه الأصغر ( زكي ) بحادث سيارة مفتعل، وسرعان ما تبعه شقيقه الآخر ( خالد ) الذي كان منظره وهو متدل من حبل المشنقة لا يفارق أمه الثكلي التي ابيضت عيناها من الحزن علي أولادها، ولولا مشاركة الأب الذي كان هيكلا عظميا مسجي علي فراش المرض لها وتقاسمه العذاب معها لما استطاعت احتمال فقد أولادها .
كل ذلك اضطره إلي اللجوء إلي الكويت، وفي هذا الصدد يشبه أحمد مطر نفسه بالسياب الذي مر بالدورة نفسها، وفي الكويت حيا حياة اللاجئ، لأنه رفض النزول عن مواقفه المبدئية وعن أنفته وكبريائه في أثناء عمله محررا أدبيا وثقافيا في جريدة القبس الكويتية، فاضطر إلي أن يعيش الكفاف والتعب، ولكن هذا لم يمنعه من استغلال تلك الفرصة في نشر لافتاته علي صفحات جريدة القبس .
وفي رحاب القبس وجد أحمد مطر نفسه وجها لوجه أمام ثائر آخر لم يغادر قضيته التي آمن بها كما يقول أحمد مطر هو الفنان الفلسطيني ناجي العلي، وكانا يشتركان في أشياء كثيرة دونما اتفاق بينهما، حتي صار ينظر لناجي العلي فيجد نفسه فيه، واستمر الشاعر أحمد مطر بنشر لافتاته علي الصفحة الأولي من جريدة القبس، في حين راح زميله ناجي العلي يختمها بلوحة من رسوماته الكاريكاتورية، وكان من الطبيعي أن يستمرا في نهجهما الثائر علي صفحات جريدة القبس، لولا مغادرتهما الكويت إلي لندن، واستقرار رصاصة من عملاء الموساد في صدر ناجي العلي، فترك هذا أثرا كبيرا في الشاعر نلمسه من خلال قصيدة ( ما أصعب الكلام) التي رثي بها ناجي العلي .
انتقل أحمد مطر إلي لندن عام (1986) بسبب عدم نزوله عن مبادئه ومواقفه، فضلا عن رفضه التقليل من الحدة في أشعاره التي كان ينشرها في القبس، وهو أمر لا تستسيغه الكويت والمنطقة كانت تمر بحرب طاحنة، إلا انه بقي يعمل في مكاتب القبس الدولية، ومن لندن سافر أحمد مطر إلي تونس ليجري فيها اتصالات مع كتابها وأدبائها، فرجع قافلا إلي لندن ليلقي فيها عصا الترحال ويستقر فيها بعيدا عن وطنه، وسرعان ما تسوء علاقته مع القبس، ولاسيما بعد(أن فتحت القبس له قوس الخيبة مع قصيدة اعد عيني وقصيدة الراحلة ) فصارت (الراية ) القطرية متنفسه علي العالم بعد أن نحرت الرقيب علي أعتاب لافتاته كما يقول أحمد مطر إكراما للحرية، وعن هذا الموضوع يكتب أحمد مطر لافتة بعنوان ( حيثيات الاستقالة ) جاء فيها:
(( أيتها الصحيفه
الصدق عندي ثورة .
وكذبتي
إذا كذبت مرة
ليست سوي قذيفه !
فلتأكلي ما شئت، لكني أنا
مهما استبد الجوع بي
أرفض أكل الجيفه .
أيتها الصحيفه
تمسحي بذلة
وانطرحي برهبة
وانبطحي بخيفه.
أما أنا ..
فهذه رجلي بأم هذه الوظيفه ! ))
وعن حياته في بريطانيا كتب أحمد مطر ملخصا تلك الحياة :( أنا في بريطانيا دولة مستقلة، نمشي علي قدمين، نشتاق إلي أوجاع احتلالها ونهفو إلي المعركة من جديد لست سعيدا لأني بعيد عن صدي آهات المعذبين لأني احمل آهاتهم في دمي، فالوطن الذي أخرجني منه لم يستطع أن يخرج مني ولا أحب أن أخرجه ولن أخرجه )). أما اليوم فان أحمد مطر يعيش في بريطانيا مريضا يقتات علي الذكريات والشاي والتدخين،يعيش بين أفراد عائلته، (عائلته أربعة وهم : علي دكتوراه مونتاج سينما ومسرح، حسن ماجستير مونتاج سينما ومسرح، زكي مازال طالبا في الثانوية، وفاطمة تدرس الأدب المقارن في إحدي الجامعات البريطانية )، وكلما أفاق من سطوة المرض وجد وطنه يلعب دور البطولة التراجيدية علي شاشات التلفزيون، ولاسيما بعد أن لعبت بريطانيا الدور ذاته الذي كانت قد لعبته، فتتحول الضحكة التي ينتظرها أهله منه إلي نوبة نشيج مكتوم، تعلو بعدها توسلات الأبناء إليه أن يضرب عرض الحائط كل ما من شأنه إثارة الانفعال والأسي لديه، فلا يجد أحمد مطر سلوة له إلا أن يعد المرض حسنة لأنه أبعده قسرا عن الاستماع إلي نشرات الأخبار وقراءة الصحف وعن كل ما له صلة بالموت في وطنه .
وإذا جاز لنا اختصار كل تلك الحياة وما تحويه من حوادث وأخبار ومحطات يقول عنها أحمد مطر انه لم يعشها ومع ذلك سيموت لسبب بسيط، هو انه ولد في يوم ما نتركه يصفها، فيقول : (( قبل ثلاثين عاما، غادر البيت فتي طري العود، مغضوب علي صوته الذي انطلق من فوق منصة تشتت المحيطون بها بين سجن وغربة وموت، فتي كان يحلم بعراق لا يمتهن كرامته، ولا يسرق حريته، ولا يكتم صوته، ولا يقتفي ظل قصيدته، فتي حمل الوطن معه وغادر، علي أمل عودة وشيكة إلي بيت أجمل والي أم أهلكها الانتظار، والي أب بسيط صابر، والي إخوة أحرار كالميلاد، لم يدر ذلك الفتي الغض أن ظهره سيظل عاريا طيلة ثلاثين عاما، وان للطغيان عمر الغربة ونوايا الشياطين، وانه سيسرق بعد عامين شقيقه الأصغر بحادث مفتعل، وسيعلق شقيقه الآخر علي واحدة من مشانق ألعابه، ويبخل علي أمه الثكلي حتي بشكل قبر، وانه سيكسر هيكل أب ظل يتلفت علي فراش الموت بحثا عن أبنائه، لم يكن ذلك الفتي الغض يعلم أن السنين الأجمل ستمضي من دون أن يغنم الحلم، وان عين الأم ستبقي معلقة علي الباب))
رأيه في الواقع العربي وفي جدوي الشعر :
يقول أحمد مطر انه اختار أن يعيش في محنة الإنسان العربي، وان يلتزم قضيته في شعره أينما كان، فهو يكتب عن عشرين عراقا لا تفاوت بينهم إلا في نسبة القطران،وعن وطنه يقول في لافتة بعنوان ( الحميم ):
(( حين أطالع اسمه .. تنطفيء الأحداق
وحين اكتب اسمه .. تحترق الأوراق
وحين اذكر اسمه .. يلذعني المذاق
وحين اكتم اسمه .. أحس باختناق
وحين انشر اسمه .. تنكمش الآفاق
وحين أطبق اسمه ..ينطبق الإطباق
يالأسي منه، عليه،دونه، فيه، به
كم هو أمر شاق
أن احمل العراق ))
ويكتب عن المواطن العربي وهمومه، انه رجل من عامة الناس يعيش في محنتهم، يحمل قضيتهم التي هي قضية أمته في كل خلية من خلايا جسمه، بل انه وطن علي هيئة إنسان كما يقول هو عن نفسه وشغل نفسه كذلك بفضح كرامات الحكام العرب الذين يبادرون إلي التطبيع كما يقول حتي مع الديدان إلا مع شعوبهم، ومما كتبه في ذلك لافتة بعنوان ( واحدة بواحدة ) جاء فيها :
(( سأغسل الشعر لكم بالماء والصابون
لكن عندي طلبا
رائحة الحكام لا تعجبني
أريدكم
أن تسحبوا السيفون )) .
وشغل نفسه كذلك بفضح التناقض في مجتمعاتنا، ذلك لأن الحكومات العربية لم تنزل علينا من السماء بالمظلات كما يقول بل هي نتيجة وضع شعبي مختل، وفرعون لم يقل (( أنا ربكم الأعلي )) إلا بعد أن رأي حوله عبيداً يطيعونه،وأول هذا التناقض الذي شغل الشاعر نفسه لفضحه تناحرنا نحن الشعوب العربية لمجرد الخلاف بالرأي، وفي هذا الصدد يقول أحمد مطر : إن من الطبيعي أن تجد في البيت العربي الواحد أربعة شعوب متناحرة لمحض اختلافها بالرأي، وإذا كان لنا امتياز من غيرنا فإننا شعب فينا كل شروط الكتلة، ومع ذلك بإمكان أي مواطن فيه أن يكفر جميع إخوانه ويحجز الجنة التي عرضها السماوات والأرض له وحده، بل بلغ العجز فينا أن الواحد منا يستطيع أن يكون وحده فرقة ناجية لوحده، ثم لا يلبث نصفه الأيمن أن يعلن انشقاقه علي نصفه الأيسر، وفي هذا يقول الشاعر، في لافتة بعنوان ( المنشق ) :
(( أكثر الأشياء في بلدتنا
الأحزاب
والفقر
وحالات الطلاق .
عندنا عشرة أحزاب ونصف الحزب
في كل زقاق !
كلها يسعي إلي نبذ الشقاق !
كلها ينشق في الساعة شقين
وينشق علي الشقين شقان
وينشقان عن شقيهما ..
من اجل تحقيق الوفاق ! ))
ثم يضيف قائلا :
(( لم يعد عندي رفيق
رغم أن البلدة اكتظت
بآلاف الرفاق !
ولذا
شكلت من نفسي حزبا
ثم أني
مثل كل الناس
أعلنت عن الحزب انشقاقي !)) .
وفي لافتة ( قومي احبلي ثانية ) يجلد ذاته بنوع من السخرية والتهكم فيقول :
... يا أرضنا .. يا مهبط الأنبياء
قد كان يكفي واحد
لو لم نكن أغبياء ! .
ويصل جلد الذات عنده حدا يبلغ معه الذروة في لافتة ( بيت وعشرون راية)، فيقول:
(( أسرتنا واحدة
تجمعها أصالة ولهجة .. ودم .
وبيتنا عشرون غرفة به
لكن كل غرفة من فوقها علم
يقول :
إن دخلت في غرفتنا
فأنت متهم !
##
أسرتنا كبيرة
وليس من عافية
.. أن يكبر الورم ! ))
وعندما سئل الشاعر عن إمكان قوله قصيدة الحب وترك الدوران حول موضوع واحد هو الموضوع السياسي، أجاب :(( إن الأرض تكرر دورانها حول الشمس كل يوم، لكنها لا تكرر نفسها حتي في لحظتين متتاليتين، والشعر العربي يكرر موضوع الحب منذ الجاهلية، والقضية برمتها هي عبارة عن رجل يعشق امرأة، وامرأة تحب رجلا، فهل تستطيع القول إن الموضوع قد اختلف عن هذا يوما ما ؟ . إن هذا الموضوع لم ينته بالتكرار، لأن هناك دائما زاوية جديدة للنظر ونبرة جديدة للبوح وثوبا جديدا للمعني ... إني أتساءل : ألا يكون الحب حبا إلا إذا قام بين رجل وامرأة ؟! أليس حبا حنينك إلي مسقط رأسك ؟ .. أليس حبا أن تستميت لاسترداد الوطن من اللصوص ؟ ...أليس حبا أن تحاول هدم السجن وبناء مدرسة ؟ ... إن البكاء علي الأهل والغضب علي المقاول، هما ارفع أنواع الحب في مثل هذا الموقف)) .
وعن جدوي فعل الشعر في وسط هذا التناقض، يقول أحمد مطر : إن الشعر ليس نظاما عربيا يسقط بموت الحاكم،كما انه ليس بديلا عن الفعل، بل هو قرين له، انه نوع من أنواع الفنون من مهماته التحريض والكشف والشهادة علي الواقع والنظر إلي الأبعد، وهو بذلك يسبق الفعل ويواكبه ويضيء له الطريق ويحرسه من غوائل التضليل، وقديما قال نصر بن سيار : إن الحرب أولها كلام، والواقع إن الكلام محيط بالحرب من أولها إلي آخرها، توعية وتحريضا وتمجيدا، وهذا ما مثله ابن سيار نفسه . لا غني للفعل عن الكلام الصادق المؤثر، لأن غيابه يعني امتلاء الفراغ بالكلام النقيض، ونحن نعلم أن هذا النقيض موجود وفاعل حتي بوجود الصدق، فما بالك إذا خلا الجو تماما؟ وما من مقاومة علي وجه الأرض استغنت بالمقاتل عن الشاعر، كل مقاومة حية تدرك أن لا غني للدم عن الضمير،
وتاريخ امتنا نفسه اكبر شاهد علي أهمية دور الشاعر في الحرب، بل ان المقاتل نفسه طالما شحذ سيفه ولسانه معا، فهو يخوض غمرات الوغي( وكر مرتجزا أو طعنه راجزا أو هوي صريعا وهو يرتجز )، وإذا كان أبو تمام قد قال :
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
فهو قد جعل رأي الشاعر أولا إذ أكد ضمنا أن سود الصحائف هي الدليل المبصر لبيض الصحائف العمياء، وما قاله أبو تمام مواربا قاله أبو الطيب من دون مواربة :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فالشعر مهم لنا نحن العرب، ولولا ذلك لما حفيت أقدام المخابرات المركزية الأمريكية في سعيها من اجل تدميره بأيدي المغول الجدد، وعلي أية حال، فان أحمد مطر ما كان يتوقع أن يحصل التغيير بالشعر فقط، وفي هذا الصدد يقول في لافتة بعنوان (دور) :
(( اعلم أن القافية
لا تستطيع وحدها إسقاط عرش الطاغية .
لكنني أدبغ جلده بها
دبغ جلود الماشية !
حتي إذا ما حانت الساعة
وانقضت عليه القاضية
واستلمته من يدي أيدي الجموع الحافية
يكون جلدا جاهزا
تصنع منه الأحذية ! ))
ديوان شعره :
لأحمد مطر ديوان كبير مطبوع طبعه الشاعر في لندن علي نفقته الخاصة ونشره في مكتبتي ( الساقي ) و(الأهرام ) تضم المجموعة الكاملة سبعة دواوين بعنوان لافتات ( لافتات 1 لافتات 2 لافتات 3 ... )، وتضم بعض الدواوين الشعرية الأخري، مثل؛ ( إني المشنوق أعلاه ديوان الساعة)، فضلا عن بعض القصائد المتفرقة التي لم يجمعها عنوان محدد، مثل؛ ( ما أصعب الكلام العشاء الأخير لصاحب الجلالة إبليس الأول)، وهناك قصائد أخري نشرها وما زال ينشرها الشاعر علي صفحات جريدة الراية القطرية.
ينتمي معظم شعر أحمد مطر خلا بعض القصائد إلي الشعر السياسي، ذلك لانطوائه علي فكرة الرفض للواقع السياسي العربي والاعتراض عليه،حتي أن الناقد رجاء النقاش رأي أن أحمد مطر من المؤمنين بمقولة غوركي ( لقد جئت إلي العالم لأعترض )، ومعلوم إن هذا النمط من الشعر هو من شعر المواقف الواضحة، تلك المواقف التي لا يجد القاريء صعوبة في فهمها وتعرف ملامحها، وهو أمر يكاد يشترك فيه معظم الشعراء السياسيين من شعراء المقاومة الفلسطينية، كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، ونجده عند شعراء العالم السياسيين كمايكوفسكي في روسيا ووالت ويتمان في أمريكا الشمالية وبابلو نيرودا في أمريكا الجنوبية وناظم حكمت في تركيا، فضلا عن الشاعر الفرنسي اراغون.
إن أبعاد شعر أحمد مطر وكذا الشعر السياسي عامة بعيدة عن الإبهام الذي غشي القصيدة العربية الحديثة، فلم يتناول الموضوعات الفلسفية والميتافيزيقية والصوفية والأسطورية وغيرها الذي يكسب الشعر شيئا من الغموض، وانه لم يسع ليكون شعره صدي للمذاهب الأدبية الغربية كالرومانسية والدادائية والسريالية، كما هو شأن بعض الشعر الحداثي، بل ان أحمد مطر كان له موقف سلبي من شعراء الحداثة العربية ولاسيما ادونيس ربما بسبب ميلهم للغموض والتعمية ففي قصيدة (عقوبة إبليس) يجعل أحمد مطر قراءة شعر أدونيس والعقوبة صنوان، انه يتحدث عن موضوع محدد وواضح لا يحتاج إلي الإبهام والغموض ليخلق شيئا شعريا، فضلا عن أنه لم يكن خائفا من السلطة حتي يحتاج إلي الإبهام والغموض لحماية نفسه، نعم ربما احتاج إلي التعمية بسبب الرقابة حتي تمر دواوينه الي الشعوب العربية، فأحمد مطر ينتمي إلي مدرسة البساطة والسهولة، أو مدرسة السهل الممتنع التي ينتمي إليها نزار قباني، وهو يراهن علي الجمهور البسيط، فيعبر عن مشاعره وهمومه، التي هي همومه أيضا، ومن ثم لا يتكئ علي ثقافة بعيدة عن المواطن البسيط ولا يستعين بلغة بعيدة عن متناوله حتي غدا نص أحمد مطر نص كل مواطن، وخلاصة القول في شعر أحمد مطر إنه يدور في فلك موضوعي يكاد يكون واحدا هو الموضوع السياسي، وتجربته الشعرية هي تجليات متنوعة لهذا الفضاء .
ولأن الشاعر السياسي لابد له من صلة قوية بالجمهور الذي يخاطبه حتي يتمكن من تحريضه والدفع به نحو التغيير، لذلك يحتاج إلي الأساليب الفنية التي تمكنه من ربط الجمهور البسيط به، فليس هو كشاعر الأفكار الفلسفية المعقدة الذي لا يعبأ بالجمهور، وربما لا يحزنه قلتهم، بل لعله يجد في ذلك مزية وقيمة، فهو شاعر الصفوة والنخبة، وليس معني هذا عدم توجه أحمد مطر صوب النخبة، ولكنه وضع في حسبانه أن معظم قرائه هم من الناس البسطاء من عامة الشعب، من هنا علينا فهم الأسباب التي جعلت أحمد مطر يتناول موضوعا واحدا محددا في كل قصيدة من قصائده، وينتقي الألفاظ السهلة التي لا يجتهد الإنسان البسيط في فهمها، فضلا عن توظيفه الايقاع الحاد والقوافي العنيفة القاطعة، واعتماده الصور الواضحة التي تعتمد علي المفارقة التصويرية، ولاسيما التي يكون الحيوان أحد طرفيها، وتفضي إلي شيء من السخرية المرة باعتماد أسلوب القص بالرسم الكاريكاتوري، وكل ذلك في إيجاز شديد ومبالغة في تكثيف المعاني بغية التأثير بالجمهور، فضلا عن إتاحة الفرصة لقصيدته للانتشار بين الناس بعيدا عن أعين السلطات ورقابتها،

السبت19/4/2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.