ذهبت إلى وادي «عقلة شارن» في المنطقة المسماة «زق الطير» قريبا من «وادي الكحل»، في أثر قصة العثور على النفط في ولاية الكاف، وفي أثر الإشاعات المتضاربة التي شغلت الناس في الجهة وخصوصا ما تفعله الآلات الجبارة التي تهز الأرض حتى أن أحد الرعاة على طريق ساقية سيدي يوسف قال لي ناصحا: «إن كنت تبحث عن الشاحنات التي «تردس»، (أي ترفس الأرض) فقد رحلت نحو وادي السواني». الحديث عن العثور على النفط في الكاف أصبح ظاهرة، حتى أن أحد أقاربي قال لي مازحا: «لقد أصبحنا أغنياء»، فيما كشف لي قريب آخر يشتغل سائقا لدى شركة فرنسية أنه يتلقى يوميا عشرات مطالب الشغل ليوصلها إلى المسؤولين. كان أكثر ما أثارني عند إعداد هذا الريبورتاج، هو ما قاله لي صديق طفولة إن: «النفط كان يجري تحت أقدامنا في ملاعب طفولتنا»، غير أننا لم نتفطن إلى ذلك أبدا لأننا كنا نعتقد منذ الأزل أن تلك الروائح الكريهة التي كنا نشمها في «عين كبريتة» أو «جبل حديدة» ليست سوى مخلفات التعفن التاريخي لمياه الملاحات والأودية الغارقة في الظل الأزلي لغابات الصنوبر أو جثث الحيوانات البرية النافقة. وفي أفضل الحالات كان المثقفون من العائلة يزعمون لنا: «إنها رائحة البخارة» المترسبة تحت الأرض. وهكذا وجدت نفسي أتوجه مع صديق الطفولة إلى وادي العقلة، «عقلة شارن» على بعد 18 كلم عن مدينة الكاف حيث قيل لي إن النفط يظهر فوق الأرض ويمكن رؤيته بالعين المجردة حتى دون حفر. في وادي العقلة بذلت الدولة جهودا استثنائية في تشييد الطرقات الريفية وتعبيدها ونشر التيار الكهربائي حتى آخر «دوار» على تلك الطريق. نكتشف أن الكثير من المسالك الريفية قد أصبحت معبدة، حتى نشرف على المنطقة المسماة «زق الطير» حيث يرقد الولي الصالح «سيدي سلامة» رقدته الأزلية فوق الربوة المطلة على وادي العقلة. لا نشم رائحة النفط ولا رائحة الثروة الموعودة بيد أن صديقي يطلب مني التمهل. وفي ذلك المكان يغير وادي العقلة اسمه مع تغير هوية من يسكنون على ضفافه ليصبح اسمه «وادي الكحل»، نسبة إلى منجم كحل قديم يعيد بضع المؤرخين أصله إلى ما قبل الرومان. نعثر في الطريق على بقايا الأرضيات الإسفلتية التي بناها مهندسو الاستعمار الفرنسي لاستغلال منجم وادي الكحل في استخراج الرصاص والزنك. قال لي صديقي الذي يحظى بمعرفة جيدة في مجال المناجم: «ليست الثروات الطبيعية هي التي تنقص الجهة، بل حسن التصرف فيها، لقد تصرف المستعمرون بعقلية استعمارية، أي نهب أكثر ما أمكن وإهمال الباقي، ثم إنهم أخذوا معهم الخرائط وكل المعلومات الخاصة بها». بعد ذلك أكد لي زميل جزائري أن المهندسين الفرنسيين قد نقبوا طويلا في بداية القرن الماضي عن الثروات والمعادن، وأنهم قد يكونون عثروا على الأدلة الأولية لوجود كميات هامة من المحروقات تحت الأرض لكنهم هربوا تحت تأثير هجمات المجاهدين الجزائريين عندما كانت ولاية الكاف أحد أهم قواعدهم العسكرية والسياسية. لكن المهندسين الفرنسيين أخذوا معهم خرائطهم وعلامتهم ولم يتركوا للتونسيين شيئا. الوادي هادئ يحكمه خشوع وصمت أزليان يؤكدان أسطورة «سيدي سلامة» الذي أقام هناك طلبا للعبادة في مكان يوفر له العزلة والتوحد. المكان تحيط به تلال جرداء يغلب عليها اللون الأصفر، لكننا لم نشم ولم نر شيئا من علامات النفط ولا الثروة الموعودة. عند طرف الماء، يقف صديقي عند تراب رمادي غامق، ملون بالأصفر: «إنها صفرة البخارة التي كثيرا ما تختلط بالنفط». بعد ثلاث ضربات بآلة حادة، يطلب مني أن أشم رائحة الحجارة الصغيرة التي حفرها، وكما لو كنت أرى تراب الوادي أول مرة، فقد بدت لي الرائحة قوية ونفاذة: «يا إلهي، إنها رائحة القاز». مفارقة توليت الحفر بنفسي إلى عمق فاق 30 سم، فيما كانت الرائحة تزداد قوة ووضوحا والحجارة تزداد رطوبة بالمادة الزيتية التي لا يمكن الخطأ بخصوص هويتها. وقد انتابني شك في أن يكون أحد «الخبثاء» قد تولى سكب النفط هناك للتغرير بنا، في مزحة ثقيلة، لكن صديقي أخذني إلى مجرى ماء صغير حيث بدا المشهد عاديا: ماء يغلب عليه اللون الأحمر وتعلوه طبقة شفافة لامعة. مثل تلك الظاهرة موجودة بكثرة في وادي «بولحناش» عند جبل حديدة، وعلى ضفتي بحيرة ملاق وواديها ونحن نسمي ذلك الماء «ملاحة» ونعرف تاريخيا أنه ماء سام وأن الحيوانات لا تقربه مهما كان مبلغ عطشها. قال لي مرافقي: «لم يخطر على بال أحد منا أن الطبقة الشفافة التي تطفو فوق الماء هي نفط لأننا لا نعرفه». يضيف: «ثمة طريقة بسيطة لتبين النفط في الحجارة: فتتها وارمها في الماء». وبالفعل، فقد طفت فوق سطح الماء في الحين طبقة زيتية واضحة فيما تلوثت أيدينا بمادة زيتية سوداء لا تترك أي مجال للشك في طبيعتها. قال لي مرافقي مازحا: «ألم أقل لك إننا أصبحنا أغنياء» مشيرا إلى العشرات من الأماكن المماثلة. أغلب أقاربي في «كبريتة» و«العقلة» لم يصدقوا أن تلك الآلات الجبارة التي تطوف المنطقة هي للبحث عن النفط، وأحد مهندسي النفط الذين نقبوا في المنطقة، عانى طويلا لأن العشرات من الأشقياء ظلوا يعاملونه على أنه لص آثار وكنوز وكان البعض يعرض عليه المساعدة بشرط اقتسام الكنز. أما اليوم، وبعد أن رأى الناس الشاحنات الضخمة التي «تردس» وتزلزل الأرض تحت الأقدام، فقد بدؤوا يصدقون فعلا أن أرض الجهة ثرية بالنفط. أول بئر في مارس لاحقنا رتل الشاحنات إلى وادي السواني في يوم عاصف حيث كان هديرها يفوق الخيال. تتبع هذه المعدات التي يزيد ثمن الواحدة منها عن المليون دينار شركة «س ج ج فيريتاس» وهي شركة عالمية متخصصة في إجراء «الاهتزازات الزلزالية» التي تمكن المهندسين وعلماء الجيولوجيا من رسم خريطة باطن الأرض إلى عمق 12 ألف متر، وهي تشتغل هناك لحساب شركة تونسية رائدة حققت إنجازات مذهلة في التنقيب عن النفط في الشمال الغربي وهي شركة «بريم أويل» التي يساهم فرنسيون في رأس مالها. وقد فازت الشركة برخصة تنقيب مع الشركة الأسترالية العملاقة «أويل سيرش»، ثم حققت نجاحات مذهلة في هذا المجال جلبت لها احترام الجميع حتى أنها سبقت المواعيد الأصلية لإنجاز عمليات التنقيب. وقد علمنا من مصدر مطلع أن أول بئر سوف يتم حفرها في شهر مارس القادم، لكن هذا المصدر رفض إعطاءنا أية معلومة حول كميات النفط المتوقعة في الجهة وقال باقتضاب: «تأكدوا أن حقل الكاف سوف يكون مهما جدا من حيث كميات الإنتاج، حتى أن شركاءنا الأستراليين يطلبون طريقا سريعة ومطارا». وفي هذه الأيام، لا تزال الشاحنات العملاقة «تردس» الأرض، وهي ثمانية معدات ثقيلة أربع منها تتحرك في رتل ثم تتوقف كل عشرة أمتار لينزل منها جهاز ضخم يرسل اهتزازات تشبه الزلزال، نقله أسلاك على طول يبلغ أحيانا 18 كلم حيث يوجد مخبر متنقل لقراءة المعلومات التي أرسلتها الأجهزة. لا يقول الأستراليون ولا التونسيون شيئا عما قرؤوه مما يوجد في باطن أرض الكاف، «لأن ذلك أسرار صناعية خطيرة» كما قيل لنا. أما صديقي فقد قال لي : «ألم أقل لك إننا أصبحنا أثرياء؟ هل تعتقد أنهم جلبوا هذه الآلات الجبارة التي تساوي مليارات عبثا؟».