«جوزاف منشينو» من مواليد 1930 ايطالي الجنسية قدم الى مدينة سوسة صحبة أبيه أحد البحارة الايطاليين وعمره شهران وغادرها سنة 1958 واكب عدة محطات تاريخية وبقي وفيا لمدينة سوسة من خلال زياراته العديدة آخرها كانت هذه الايام، اغتنمتها «الشروق» للالتقاء بهذه الشخصية الطريفة لاسترجاع بعض ذكرياته خلال الفترة التي قضاها بهذه المدينة والتي قاربت الثلاثين سنة فتمخض عن هذا اللقاء حقائق ومعلومات مثيرة. تعلق كبير وحب عميق يربط «جوزيف» بمدينة سوسة هذا أهم ما لاحظناه من خلال حوارنا معه والذي وصف لنا فيه مدينة سوسة كمن لم يصفها أحد مدققا في كل مكان وفي كل تغيير حاصل وكأنها قطعة منه، كيف لا فإضافة الى قضائه لفترتي طفولته وشبابه فإنه بحكم مهنته جاب مختلف أنحائها حيث اشتغل في الحدادة وقام بإنجاز عدة أسوار وشبابيك مختلف الادارات في تلك الفترة اضافة الى اشتغاله لمدة قصيرة في تسبيك الاوراق النقدية. قصة حي «القابادجي» عاش السيد «جوزيف» في حي كبير يعرف الآن ب«ڤابادجي» قريب من شاطئ «بوجعفر» وحول أصل هذه التسمية يؤكد قائلا: «الاسم الحقيقي لهذا الحي هو «كاباسيو» سكن فيه الايطاليون واعتبروه شبيها بمدينة «كاباسيو» المحاذية لباليرمو لذلك سمّوه «كاباسيو الصغيرة» أي تصغيرا للمدينة الايطالية والآن يلقبونه ب«قابادجي الصغير» أو «اللوطاني» وأضاف مؤكدا: «كان الايطاليون على خلاف بقية الجنسيات يتمتعون باحترام وتقدير كبيرين من طرف التونسيين». حميمية بين مختلف الجنسيات أشار السيد «مانشينو» بكل حماس الى مدى الروابط الوثيقة التي كانت تتسم حياة مختلف الجنسيات التي عاشت في تلك الفترة بمدينة سوسة مضيفا: «كنا لا نشعر بأي فوارق فحتى لباسنا كان تونسيا نرتدي «الكدرون» و«السروال العربي» وغيرها فلا تستطيع التفريق بين الالماني أو اليهودي أو الفرنسي وغيرها من الجنسيات وكنا نلتقي معا كل صباح لتناول الفطائر وشرب الحليب في ما يسمى ب«الحلاب»، فمسألة العنصرية كانت غير مطروحة بالمرة كنا نتزاور ونتلاقى باستمرار والتعاون شعارنا فأنا كحداد عندما يطلب مني بناء على سبيل المثال مساعدة في اصلاح شيء كنت أقوم بذلك بصفة مجانية وغيرها من مظاهر التعاون لم تكن هناك محسوبية ولا انتهازية لا أدري ما الذي أصاب علاقاتنا الآن في مختلف بقاع العالم فالمادة أعمت بصيرة العديد». أيام القصف لا تنسى تعرض السيد جوزاف الى مرحلة اعتبرها صعبة جدا ومريرة لمدينة سوسة وسكانها وهي التي قصفت فيها الطائرات الامريكية خلال الحرب العالمية الثانية وبالتحديد سنة 1942 قلب المدينة ما يعرف الآن «بباب بحر»، ويضيف قائلا: «كنت أشاهد أكثر من ثلاثين طائرة مصطفة قريبة من الارض تقصف بقنابل كثيفة دون هوادة محطمة عدة منشآت كالمسرح البلدي والمحكمة والمدارس ولازلت أتذكر في منطقة «سيدي عبد الحميد» الطائرة التي مرت فوق رأسي فانبطحت أرضا وكادت تهشمني وقد سقطت في البحر القريب من تلك المنطقة ولو ينبشون عليها يمكن إيجادها». الاحتلال الفرنسي حول فترة الاحتلال الفرنسي صرح منشينو بكل احتراز قائلا: «لا أتذكر الشيء الكثير بحكم صغر سني في تلك الفترة ولكن ما أؤكده هو العلاقة الحميمية التي كانت تربط التونسيين بالفرنسيين كمواطنين ولم ألاحظ مظاهر احتلال أما في المجال السياسي فهناك أهداف أخرى لعل أبرزها اعتبار الساسة الفرنسيين تونس نقطة دخول الى افريقيا، ولازلت أتذكر الكم الهائل من السلع والمنتوجات التي كان الفرنسيون ينقلونها على متن البواخر من الحلفاء والزيت وأيضا الفسفاط الذي كانوا يجلبونه من ڤفصة والمتلوي ويمر عبر سوسة، قامت فرنسا أيضا بعدة إنجازات بسوسة فيما يخص البنية التحتية ومن الشخصيات التي ساهمت في ذلك بصفة جلية «فرانسوا قاليني» الذي يعمل كثيرا في سوسة. اللحظة الصعبة أشار السيد «جوزيف» أن خروجه من مدينة سوسة كان من أصعب وأمر الذكريات في حياته حيث كان مكرها على ذلك بحكم انسداد أبواب العمل في سوسة حيث أغلقت المصانع الفرنسية وقامت فرنسا بترحيل مختلف الجاليات واختار فرنسا بحكم أن الاوضاع بايطاليا في تلك الفترة كانت »مزرية جدا» على حد تعبيره واضطر الى الاقامة بفرنسا الى هذا اليوم ومتمسكا بجنسيته الايطالية رغم امكانية تغييرها بفرنسية ولكن رفض ذلك حتى أن زوجته وأبناءه جنسياتهم فرنسية. ما الذي تغيّر في سوسة من 1930 الى 2010 فارق زمني يعد شاسعا خاصة لو ربطناه بسياقاته التاريخية سألنا السيد «منشينو» عن الاشياء التي يعتبرها تغيرت في مدينة سوسة خاصة وأنه لا يغيب عن زياراتها فقال: «رغم إمكانية السفر الى عدة دول عالمية وسياحية أخرى إلا أني لا أفكر في قضاء عطلتي إلا في مدينة سوسة والتي لا يضاهي سحرها في نظري أي مدينة أخرى في العالم فلا زالت ساحرة رومنسية حالمة»، وقد قمنا في اليوم الثاني بزيارة الى وسط المدينة أثارت حنين السيد «جوزيف» بصفة مثيرة فكان سريع التنهد ويصف لنا التغييرات الحاصلة وكأن الزمن لم يمر، أوقفنا في عدة أماكن بكثير من الحماس يحاول تجسيم بعض المنشآت بيديه وبأحاسيسه من خلال شحنة مليئة بالغيرة والشغف مشيرا الى المقر الثقافي يحيى ابن عمر في قلب المدينة والذي أعيد بناؤه ثلاث مرات وفي مكان آخر عرّج لنا على التمثال الذي كان منتصبا أمام محطة القطار للفرنسي «فرانسوا قاليني» والذي تمت إزالته مثلما أزيلت أشياء أخرى كتمثال الدكتور «قاليني» بوسط المدينة وأيضا تمثال رمزي آخر يدعى «مونيمون» يخلد ذكرى سقوط ضحايا الحرب العالمية لمختلف الجنسيات، وقد علق قائلا: «قد تكون هناك أسباب لازالة هذه الاشياء في تلك الفترة ولكن تعتبر من الآثار التاريخية التي وجب الاحتفاظ بها». وأضاف: «كل مكان يحمل ذكرى محفورة في ذاتي وما تغير حقا في سوسة هو تلك الحميمية التي كنت ألاحظها بين الناس حيث تقلصت كثيرا وهذا أمر مؤسف حقا». «سوسة في القلب» «كلما أزور سوسة أبقى أفكر في من بقى من الناس الذين عشت معهم في هذه المدينة أو على الاقل من بقي منهم من أقاربهم أو أولادهم والحمد لله بفضل الانترنات تعرفت على البعض من خلال موقع اسمه «سوسة فوروم» وكلما أزور سوسة يستقبلونني وما استرعى انتباهي وأبهرني هي الضيافات التلقائية التي يمن بها عليّ العديد من هؤلاء فيرجعونني الى فترة عيشي بسوسة ولازلت أتذكر تلك العادة الطيبة التي يتميز بها المسلمون من جملة عدة أشياء جميلة وهي حرصهم على مغادرة الضيف من منزلهم بهدية كانت عادة من الحلويات» وحول المجموعة التي تكونت في فرنسا تدعى «أصدقاء سوسة الى الابد» وهي بمثابة جمعية قال السيد «جوزيف»: «تضم كل من سكن في سوسة وكل محب لتلك المدينة من مختلف الجنسيات ونسعى للتلاقي وتبادل المعلومات والصور وقد جمّعت الى حد الآن 800 صورة على شكل بطاقات بريدية لمدينة سوسة عبر التاريخ منها العديد التي قمت بتصويرها بنفسي وقد سجلتها في قرص ليزري ولازلت أبحث وأوثق حول هذه المدينة مع مختلف الاطراف، فسوسة في قلبي قضيت بها أجمل ذكريات حياتي».