تتعقد الامور في فلسطين، وتتأزم في العراق، وتقترب المقصلة من عنق السودان، وتحتدم المعركة في لبنان هذا اللبنان، ليس مثله من يترجم حال العرب ويتنبأ بها في آن. وليس مثله من يلخص، بحجمه الذي يقل جغرافيا عن حجم قطر ويقارب ديموغرافيا حجم الاردن، ويصل بمجموع مقيميه ومهاجريه الى حجم سوريا، يلخص الجسد الممتد من البحر الى النهر بجغرافيته وديموغرافيته. رغم كل ذلك يظل لبنان بلدا مفتعلا، مركبا بالقوة او بالاغراء، ومن يعود الى تاريخ تركيب الدولة جغرافيا وتاريخ توزيع السلطة محاصصة، يرى ان الرقعة كانت تمتد وتنحسر بحسب طموح القيادة، وبحسب مدى رؤيتها لمداها الطبيعي. فمنذ اقام فخر الدين الحلف الشهير مع والي عكا ووالي حلب ليواجه الامبراطورية العثمانية، ويخرجها من بلاد الشام كلها، بدا واضحا ان قدر لبنان ان يكون بلدا حقيقيا عندما يدرك حقيقة مداه. لم يبن فخر الدين مشروعه على وعد او حلف مع أي طرف خارجي، لم يحركه الغرب، وانما الحس القومي المقاوم والتائق الى الحرية، ومثله كان ظافر العمري وعلي باشا جانبولاد . غير ان فخر الدين فتح بوابته للغرب ليمد خطوطه التجارية عبر توسكانا، وليستقدم ارساليات من مدارس ومستشفيات تساهم في عملية التنمية. ومنذ ان اسقط فخر الدين، واعدم مع ولديه، دخلت القوى الاوروبية لتشارك القوة العثمانية في اقتسام البلاد. الى ان وصلنا الى معاهدة الامتيازات الاجنبية وعهد المتصرفيات التي كرست سيادة الاوروبي، وكرست التوزيع الطائفي حصصا توزعت بدورها على هذه الدول مع بقاء السنة حصة الاستانة. لتصل الامور بعدها الى سايكس بيكو. منذ 1840 واللبنانيون يتوزعون على خطين لا ثالث لهما: مرتبط بولي الامر الاجنبي (الاوروبي مضافا اليه الأمريكي) ومرتبط بعروبته، المترجمة حكما بخط يمتد من عكا الى حلب. هي الجغرافيا لا مجال للالتفاف عليها، لانها الثابت الوحيد في تاريخ متحرك. واذا كان موروث التوزيع الطائفي الذي تكرس رسميا باقامة دولة الاستقلال بناء على محاصصة تقوم عليه، قد امتد ليربط الطوائف اللبنانية بدول كثيرة تختلف في بعدها او قربها، وبقوى اقليمية ودولية ما تزال منذ اكثر من قرنين ونصف تمارس اللعبة نفسها : توظيف الفصل الطائفي لتكريس الهيمنة، فان الحل الوحيد الذي يعاود فرض نفسه في كل مرة هو واحد من اثنين : حل مؤقت اشبه بحبة المسكن، وهو ما يتلقفه الجميع، لبنانيين وعربا، وحل دائم لا يريده احد، هو حل الغاء المحاصصة الطائفية والعودة الى الاحزاب غير الطائفية، وصولا الى ارساء مفهوم المواطنة التي لا تقوم على الدين او المذهب. وحل ربط الوطن اللبناني ببعده الطبيعي: سوريا اولا، ومن بوابتها الى بلاد الشام وسوريا التاريخية والمشرق العربي ثم العروبة ككل. فرصة هذا الحل ضيّعت وضاعت مرارا وللأسف. ضيّعت عندما كان يتم التآمر على كل شخصية وطنية، ايديولوجية او سياسية، وصولا الى التصفية الجسدية اعداما او اغتيالا، ومن ثم ملاحقة كل من يسير على نهجها. وعندما خرج السوريون كانت المعسكرات قد تشكلت، بحيث يمكن اختصارها كلها في خطين هما ما يختصر المنطقة الآن: خط مواجهة مع اسرائيل والولايات المتحدة، وخط التحاق تام بهما (معلنا او غير معلن) وعندما لم يستطع المحور الأمريكي الاسرائيلي ان يحقق مخططه في اطلاق شرق اوسط جديد من بيروت بعد بغداد، مما يتضمن شطب الخط الاول عبر شطب المقاومة، لجأ الى تفعيل استراتيجية المواجهة المذهبية التي اطلقها من العراق لتنتشر نارا في حطب يابس متراكم من باكستان الى لبنان. لنعترف وبألم، ان الفشل الاول تحول الى نجاح في الثاني، وها نحن نرى ان الخطاب المذهبي هو الاعلى، وان الخطاب الناتج عنه في المرحلة الاخيرة بات يحمل عنوانا واحدا: الانقلابيون. فما معنى هذا العنوان؟ انها محاولة اللعب على المربع الاول: مربع المحاصصة في السلطة في الدولة اللبنانية : محاصصة قامت على تحالف سني ماروني، ازاح الطوائف الاخرى الى الصف الثاني او الثالث او الرابع . ويتخوف اصحاب السلطة الان من انقلاب يعيد توزيع الحصص، بناء على معطيات جديدة. لكن هل هذه هي حقيقة الامور؟ صحيح ان الشيعة يعتقدون انه بات من حقهم تجاوز دور المماليك: يقاتلون ويموتون ويهجرون ويدمرون، ليقول لهم سمير جعجع بعد كل الحروب: «حررتم، كثر خيركم سلموا سلاحكم». والممسكون بمفاصل الدولة يخشون هذا التجاوز. ولكن هل كانوا ليخشون ذلك لو ان القوة الممسكة بقيادة الشيعة كانت تقف في نفس الصف الأمريكي الاسرائيلي وتوابعهما؟ الا يعيدنا ذلك الى بدايات الحرب الاهلية، عندما حول انصار هذا الصف مواجهتهم مع الثورة الفلسطينية وحلفائها الى ادعاء مشابه تماما بالخوف من انقلاب على السلطة؟ وكيف يمكن تفسير وقوف القوة المسيحية الاكبر، التيار الوطني الحر، والمردة، في صف المتهمين بالانقلاب؟ ألم يكن ميشال عون نفسه رئيسا للوزراء رئيسا للجمهورية بالوكالة؟ الم يكن ايضا مرشحا للرئاسة في المرة الاخيرة؟ أوليس سليمان فرنجيه حفيد رئيس جمهورية حمل اسمه كاملا؟ المسألة هي ببساطة اللجوء الى وتر جاهز للعزف هو وتر الخوف على السلطة، كلما لاحت ارهاصات بانه من الممكن ان يمسك بهذه السلطة مجموعة تقف في صف العداء لاسرائيل ولا تلتحق بالولايات المتحدة.