في غضون الشهر الماضي عقد نادي القصّة ندوته السنوية بمركز الحمّامات الدّولي كعادته منذ أربعة عشر عاما، وسلّم جائزتيه المعتادتين لأفضل قصّة قصيرة وأفضل مجموعة قصصية من بين ما رشّح له من أعمال. لا أركّز هنا على مواظبة نادي القصّة الدّؤوبة على عقد تلك الندوة السنوية، ولا على قيمة المواضيع التي تطرحها للبحث، أو على قيمة الدراسات العلمية التي تؤثثها.. كما سأعبر سريعا على حفل التكريم الذي يقام بالمناسبة لقدماء أعضاء النادي،ولمن ساهموا في تطويره عبر السنين. لن أهتمّ كذلك بقيمة الجوائز الماليّة المقدّمة للفائزين،فهي اعتبارية لا غير، لا هي تغني من منحت له، ولا بإمكان المانحين الزّيادة عليها، بعد أن بذلوا أقصى الجهد للحصول على ذلك القليل من المال. إذ ليس سبب مجازاة الرّابحين إلا امتيازهم على رفاق لهم بذلوا جهدا أقلّ، فلم يكافأوا هذه المرّة، وقد يأتي دورهم إن ثابروا. المهمّ عندي هو أننا نكتشف من خلال كل دورة مواهب قصصية جديدة، بعضها يخوض التّجربة لأول مرّة، وبعضها لها محاولات لكن لم تتح لها فرصة الظهور. وهكذا على مدى السنوات الماضية برزت أسماء جديدة في عالم القصّة والرّواية كان لمجلة قصص أو سلسلة منشوراتها فضل تقديمها والتعريف بها ولما حان موعد دورة هذا العام لم نكن قد أفقنا بعد من صدمة فقدان الصديق رضوان الكوني الذي غادرنا فجأة وهو منهمك في وضع اللمسات التنظيمية الأخيرة. كما لم نشعر بأن الزّمن هرول بنا مسرعا، فلم ننتبه إلى أن نادي القصّة لم يترك العام يمرّ إلاّ وقد نشر المجموعة القصصيّة الفائزة بجائزة العام الماضي وهي «طائر الرّماد» للكاتب شهاب بن يوسف. لقد فاتنا أن نهنّىء نادي القصّة على سرعته في الإنجاز، ومراهنته على المجموعات القصصية التي لم يشتهر أصحابها بعد، ولم يقل النّقد رأيه في أعمالهم، وهذا شأن مختلف عمّا دأبت عليه دور النشر التجارية التي لا تنشر إلا لأصحاب الأسماء المعروفة، وخاصّة من كانت أعمالهم مقرّرة في المناهج المدرسية. كما فاتنا أن نهنّىء الأستاذ شهاب بن يوسف بصدور مجموعته القصصية الأولى «طائر الرّماد» التي طال بها الاختمار مخطوطة في خزانته، و تردّد كثيرا في رفع يده عنها بالجسّ واللّمس، والتّصحيح والتنقيح. لن تكون كلمتي هنا إلا ترحيبا بهذا العمل الجديد، وبانضمام صاحبه إلى قائمة القصّاصين المجيدين، راجين أن يهتمّ النّقد بدراسة النّواحي الفنّيّة لهذا الإنتاج، لتعويض تقصيرنا في تناوله بالدّرس والتّحليل في زاوية محدودة المجال كهذه. تحتوي المجموعة على تسع قصص متفاوتة الحجم، فبعضها بسبع صفحات « تجديف ضدّ التّيّار»، وبعضها قارب الأربعين صفحة « ذاكرة النسيان»، تناول الكاتب في جميعها مواضيع اجتماعية ووجوديّة، وسلّط وعيه على تعقيداتها بتأمّل فلسفي فكريّ، كما سحب من ماضيه وذكرياته الموغلة في القدم صورا وحكايات يظنّها قارىء المجموعة متفرّقة مشتّتة، لكنّ أواصرها متلاحمة مترابطة. ويظنّها أيضا أن قد مضى عهدها وغيّبها النّسيان، فلم تعد تنال من الاحتفاء قدر ما يناله المستقبل وشؤونه، فإذا هي حيّة ساعية إلى إدراك ذلك المستقبل والارتباط به. لقد جمع شهاب بن يوسف بين ذاكرة خصبة أغلب تعاريشها مرسومة من حياته الخاصّة، في الأسرة والمدينة الشمالية والصّداقات الحميمة، وبين وعي حادّ بصغائر الحياة اليومية ومدى تأثيراتها في الحاضر و المستقبل القريب. فإذا فتحنا أولى صفحات الكتاب قرأنا في التصدير: «كل بداية لفكرة، توافق جرحا لا يدرك في الرّوح». أليس في هذا إيماء بأنّ الأفكار التي سنقرؤها هي آثار جراح باطنية عجزت الرّوح عن إدراكها، أو أنها بنيّة مبيّتة أسكنتها بحيراتها المتجمّدة، وغطّتها بركام النّسيان؟ إن الجراح العميقة مهما أغلقت عليها الأبواب وحكم عليها بالصّمت الأبدي لا تفقد بذرة الحياة، وسيعثر لها الفكر الخلاّق عن مخرج . وحينئذ تبدأ النفس المعطوبة، المثقلة ذنوبا وندما وذكريات مفرحة ومترحة بالبوح، بخلق الأفكار وبلورة الرّؤى، حتى لتبرزها أحيانا كالحكمة أو الفلسفة أو الإشراقة الصّوفية، إن لم تكبتها المكبّلات والموانع والكوابح. أما إذا امتلك صاحبها ناصية الكلمات، وكان له منها زاد يفي بقصده ويطوّع له المعاني، فذلك هو الكاتب، إذ يصوغ من أفكاره ورؤاه كلمات التعبير الصّريح عن مكنونات الصّدر، والمخبّآت التي غلّفها الصّمت، وكادت تندثر بالنّسيان. وقد نقل لنا الكاتب على عتبة إحدى قصصه أبلغ تعبير عن ذلك بقول إحدى الكاتبات: «ليست الكلمات سوى أقنعة تخفي الجروح»، فإذا جاءت الكلمات منتقاة بذوق، بليغة المعنى، أنيقة المبنى، كان ذلك أدبا. وقد سرّني أن يبدأ الأستاذ شهاب بن يوسف طريق الإبداع بهذه المجموعة من الأدب الرّاقي، راجيا أن يزداد تمكّنه في الأعمال القادمة من مواضيعه وأدواته.