كنا في العدد الماضي قد عرضنا ضمن ملف «في الإرث الثقافي والفرجوي التونسي» مظاهر الفرجة الشعبية والعفوية ونواصل في هذا الجزء الثاني والأخير عرض المظاهر الفرجوية التونسية العليمة. ونؤكد في هذا الصدد على الصفة الفرجوية العليمة، تمايزا عن المظاهر الفرجوية العفوية التي تدخل إما في باب الطقس الديني أو الحاجة الشعبية للتعبير الظهوري، وهي عليمة لأنها تخضع إلى معرفة مسبقة وطريقة في الأداء المضبوط، علاوة على قربها من الظاهرة الدرامية والمسرحية، ونميل أن نحصر هذه الظواهر الفرجوية في ثلاثة أشكال رئيسية هي: ظاهرة «الفداوي»، وظاهرة «الكاراكوز»، وظاهرة «إسماعيل باشا». إعداد: عبد الحليم المسعودي فرجة الفداوي كامتداد للتراث الشفوي: وهي الظاهرة الأكثر تأصلا وارتباطا بالثقافة والذاكرة الشعبية، وهي تعتمد بالأساس القص أو السرد الملحمي، يقوم به شخص في الأماكن العمومية وخاصة في المقاهي، كما هو هو الحكواتي في بلاد المشرق وتحديدا في بلاد الشام، وقد سبق أن تعرضنا لذلك باستفاضة، وهو وإن كان في تونس ظاهرة حضرية فقد يتخذ أسماء وصفات أخرى في الأرياف والبوادي، ويعد من أعرق المظاهر الفرجوية في التراث الثقافي العربي الإسلامي في ارتباطه بالأساس بسحر الكلمة وبلاغتها و كذلك بقدسيتها من منظار تنزلها في دائرة القصص، سواء كان هذا القصص يحاذي أو يجاور القصص القرآني الذي تولدت منه مدونات قصص الأنبياء، كذلك قصص السير النبوية. ويذكر الحشايشي حول ظاهرة الفداوي أنه: «القصاص، وهو المسمى في عرفنا بالفداوي، وهذا يجلس بالقهاوي العامة، ويجلس على كرسي, وبيده عصا، فيذكر القصة من أولها إلى أن يختمها، والناس حوله صاغية واعية كأنما على رؤوسهم الطير, وغالب هذه القصص الذي يذكرونه هي سيرة سيف اليزل، وسيرة عنترة بن شداد العبسي، وسيرة محمود بن أبي برص، وهي سيرة لا وجود لها صحة في التاريخ، وتعتني بالناس من العوام غاية الاعتناء، وربما كان فيهم بعض المضحكين، فتأتي بهم الأعيان إلى منازلهم الخاصة للتمحيص والبسط... وموضوع تلك القصص هو التكلم على الحروب السابقة والملوك الغابرة بأساليب كلها إفتراء». فرجة الكاراكوز أو خيال الظل: ظاهرة الكاراكوز أو مسرح خيال الظل وهي تلك الظاهرة التي أشرنا إليها، وقد انتشرت في تونس بحكم انتقالها في الدولة الحسينية عن طريق الأتراك، ويبدو أن هذا الفن القريب جدا من الظاهرة المسرحية، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك، قد ظهر في الأرباض الشعبية في الحاضرة، وهو عرض فرجوي يقام عادة في ليالي شهر رمضان، وربما قد تكون عروضه قد ظهرت في بعض المقاهي، ويذكر الحشايشي هذه الظاهرة و قيامها في تونس الحاضرة فيقول: «وتوجد ملاهي للعب بخصوص شهر رمضان في أماكن للصبيان يلعب فيها بالتصوير من وراء الستار بالخيال من الصور في نور المصابيح، ويسمى المكان خيال الظل، وربما أحضر فيها نوع من السّماع، وصورة للعب هي تشخيص حكاية بصور من الجلد على هيئة المحكي عنه، واللاعب يتكلم على لسانها و الجميع من وراء الستار كأن الواقعة مشاهدة، وإن كانت الصور صغيرة طولها قدر شبر من الجلد». ويشير الحشايشي محددا مكان هذه العروض ونوعية جمهوره فيقول: «والأغلب أن تكون هذه الأماكن وسخة ولا يدخلها إلا الصبيان، وبعض من لا مروءة له من الرعاع لتقضية الأوقات فيما لا فائدة فيه سواء السخرية والضحك، وإضاعة الزمان، والأغلب في الحكايات أن تكون مضحكة مما يدركه الصبيان، وربما شخصوا المستحيلات العادية كالغول والشيطان إذ هذا لا يرى ولا تعرف صورته، بحيث يصح أن يقال إن هاته الملاهي لا ثمرة فيها إلا مجرد لهو صبيان...». ويتفق الصادق الرّزقي في كتابه» الأغاني التونسية» حول الصفة الهزلية لمسرح خيال الظل أو الكاراكوز وحول نوعية الجمهور الذي يمثله الصبيان، فيقول: «في ليالي رمضان تفتح محلات عمومية لفرجة الصغار ك (كاراكوز) وهو اللعب بصور من الورق الغليظ تمثل خيالات من وراء ستار بحركات و حكايات لطيفة مضحكة جدا». وقد شهد هذا الفن الفرجوي تدهورا كبيرا حين تحول إلى مجرد أداة ترفيهية خاصة و أن الكثير من الشهادات تشير إلى أن ممارسي هذا الفن يعمدون إلى استعمال اللغة السوقية التي تخدش في رأيهم الحياء، ومن الملفت للنّظر أن الكاراكوز أو خيال الظل قد أثار انتباه الكثير من الرّحالة الغربيين الألمان وخاصة الفرنسيين، وقد جذبهم في ذلك طابعه العجائبي والإغزوتيكي، كما تم تركيزهم في ذلك خاصة على بؤس أمكنة العرض ونوعية الشرائح التي تشاهد مثل هذه العروض. وقد تعرض هذا النوع من الفرجة إلى المنع سواء من طرف السلطة الاستعمارية أو من طرف استهجان رجالات الثقافة الرسمية وعلى رأسهم المتدينون من الفقهاء، وهو نفس الموقف الذي نلمسه عند الحشايشي الذي يندد في كلامه بالكاراكوز الخادش في رأيه للأخلاق و الحياء. فرجة» إسماعيل باشا» أو الدمى الصقلية: يبقى أن نشير إلى ظاهرة فرجوية أخرى و هي ظاهرة الدمى الصقلية التي تم تبنيها من طرف السكان الأصليين، وقد تمت «تونستها» لتعرف باسم لعبة «إسماعيل باشا». وتعتمد هذه الفرجة على تحريك دمى خشبية ونحاسية تروي قصصا ملحمية وبطولية بين المسلمين الأتراك والإفرنج من خلال استعمال دمى خشبية توجد مثيلاتها في جزيرة صقلية حيث تستعمل لإغراض ترفيهية وأخرى دينية. ويذكر محمد عزيزة: «أن مسرح الدمى الذي لم تكن له شعبية مثل «القاراقوز» والذي تختلف درجة معرفته في البلدان الإسلامية. وهذا النوع من المسرح أصبح معروفا في تونس بتأثير صقلية»، ويحدد الباحث خصائص هذا الفن، فيقول,: « ويتمثل مسرح الدمى في تونس في ثلاثة أشخاص ورواية لا يقبلون التغيير أبدا: «إسماعيل باشا» يفتك بعد محاولات حربية «نينا» الجميلة التي ضبطها «نكولا» الإيطالي أو الإسباني حسب الظروف». ويبدو أن هذا الفن، فن الدمى قد دخل تونس في القرن التاسع عشر مع الجاليات الإيطالية الأولى الوافدة على البلاد حيث كان للإيطاليين مسرح للدمى وقد كان يعرض قصصا من التراث الشعبي القروسطي المحتفل بالمآثر الصليبية وأخبارها. ويبدو أن بعض التونسيين قد تبنوا هذا الفن و غيروا قصته التي صار فيها المنتصر هو التركي المنتصر على الإفرنج، ويبدو أن هذا الفن الشعبي قد استقر في الأرباض خاصة في منطقة الحلفاوين بالحاضرة. كما أننا نجد في الشهادات القليلة أن جمهور فرجة «إسماعيل باشا» هو جمهور الأطفال كما هو الحال عادة مع جمهور الدمى بصفة عامة. ونعثر في شهادة للفنان المسرحي محمد إدريس، (والذي سبق له وأن أنجز مسرحية بعنوان» إسماعيل باشا» استفاد من خلالها من جمالية مسرح الدّمى الصّقلي) على أن هذا الفن لجيل بداية القرن العشرين، وأنه كان فنا خاصا بالأطفال وربما من صاحبهم من الأولياء، وهو ما نفهمه من شهادته حين يقول: «إسماعيل باشا حلم لم يفارقني منذ طفولتي وزادني ولعي بالمسرح تشبّثا به. ففي سنة 1966 قمت بتدوين ما علق بذاكرتي من مقاطع هذه الفرجة التقليدية المقامة على لعبة الدمى الصقلية المتونسة، والتي انقطعت مع اندلاع الثورة الوطنية سنة 1952, وقد أعانني والدي على تكملة ما سجلته بمجهودي الخاص». ولعل فن مسرح الدمى» إسماعيل باشا» يعد الفن الفرجوي الوحيد الذي أخذه التونسيون عن الآخر قبل تعرفهم على المسرح بمفهومه الغربي وتونسوه لصالحهم، وقد أضافوا عليه من مخيالهم و مشاغلهم زمن بداية الإستعمار قصصهم الحنينية زمن البطولات الإسلامية، ويشير عزيزة في هذا الصدد مبرزا دلالة هذا الفن في علاقته بالوجدان التونسي فيقول: «والجانب السياسي واضح كل الوضوح في هذه القصة كالدولة العثمانية أطردت المحتل الإسباني، ومسرح الدمى أخذ هذا النصر الحربي السياسي وكيفه ليصبح انتصارا للحرب». وخلاصة القول فإن الإرث الفرجوي في تونس في القرن التاسع عشر لم يكن بأية حال من الأحوال محط اهتمام السلطة السياسية في البلاد من منطلق العناية به أو تطويره فقد كان ذلك الإرث مجرد تلك الثقافة الشعبية الهابطة التي تمارسها العامة، وهو ما نلمسه في اللهجة التحقيرية عندما يتعرض أحدهم للحديث عنها فيكتفي بحشرها إما في العادات التونسية أو البدع، ولنا في لهجة محمد عثمان الحشايشي أحسن دليل على ذلك. وعلى الرغم من هذا التهميش الذي يتعرض له هذا الإرث الثقافي الفرجوي، فإن هذا الإرث بالمقابل لعب دورا أساسيا في الحفاظ على الذاكرة الشعبية، كما أسهمت بعض مظاهره في تذكير الناس بوحدتهم الروحية والسياسية وانتمائهم الثقافي للحضارة العربية الإسلامية، كما هو حال ظاهرة الفداوي التي تذكر الجمهور بأمجاد العرب و الإسلام في زمن طغت فيه الأمية على العقول، وهو ما حاول القيام به فن الدمى الصقلية» إسماعيل باشا»، حين كان هذا الفن منتصرا للعثماني المسلم الذي أوقع الهزيمة بالإسبان الغزاة و طردهم من أرض الإسلام. لكن هذا الدور في تعميق الإحساس بالهوية و الانتماء وحتى بالوطنية، ومعاداة الأجنبي المستعمر سيقوم به لاحقا المسرح العربي في بداية القرن العشرين وسيكون رافدا من روافد الثقافة الأساسية في تذكية الوعي الوطني عند التونسيين الوطنيين في معركتهم ضد الإستعمار الفرنسي.