(1) في الزمن الذي تطالب فيه الأمم الحيّة باسترجاع آثارها من المتاحف الميتروبولية، إلى درجة بلوغ الأزمات الدبلوماسية كما هو حاصل بين اليونان وبريطانيا العظمى بخصوص أجزاء من المنحوتات البارزة لواجهة معبد الأكروبول التي نهبها الانقليز في العهد الفيكتوري والموجودة في المتحف البريطاني بلندن، ينادي البعض في عالمنا العربي والإسلامي بالتفريط في الآثار و بيعها و نسفها... وفي الزمن الذي تزدحم فيه المتاحف الغربية وأروقة سوق التحف الأثرية، وواجهات المتاحف الغربية بآثارنا، وفي الزّمن الذي تباع فيه آثار المتحف العراقي بالمزاد العلني عبر شبكات المافيا «الوطنية» جدا لتستقرّ، تلك الآثار في المتاحف الإسرائيلية، يتواصل النزيف الأثري في البلاد العربية بشكل لا يمكن وصفه، وقد وجد هذا النزيف مسلكا جديدا لا عبر جريمة السرقة المنظمة ولا عبر تجار الآثار، ولا عبر الهدايا الدبلوماسية، بل عن طريق التحريض من خلال الفتاوى الدينية. (2) ففي برنامجه التلفزيوني «فتاوى الرّحمة» الذي يذاع مساء الاثنين من كل أسبوع على الفضائية الدينية «الرّحمة» أفتى الداعية الإسلامي المصري محمد حسان بجواز بيع الآثار إن وجدها الشخص في ملكيته الخاصة، ووجوب طمسها إن كانت تجسم أشخاصا. ويقول هذا الداعية في فتواه كما جاء في هذا البرنامج(*) ردا على سؤال حول حكم بيع الآثار: «إن كانت هذه الآثار في أرض تملكها أو في بيت لك فهذا حقك ورزق ساقه الله و لا إثم عليك في ذلك ولا حرج، و ليس من حق دولة و لا مجلس و لا أي أحد يسلبك هذا الحق، و هذا الرزق الذي رزقك الله إياه، هذا ركاز أو كنز أو ذهب أو غير ذلك فهذا حقك إن كان في ملكك» ويشير هذا الداعية فيقول: «أما إذا كانت هذه الآثار ظاهرة التجسيم لأشخاص فعليك أن تطمسها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع هذا (الأثر المجسم )...». (3) هذا آخر ما تفتقت به قريحة و عبقرية الفتاوى الإسلاموية في إهدار تراث الأمة، ونسف كل مخزون رمزي بإمكانه أن يساهم في بناء وتغذية الكائن المنتمي إلى مدار الثقافة والحضارة العربية والإسلامية المعاصرة. وليس هذا الخطاب في الحقيقة إلا إمتدادا لذلك الفعل الكارثي الذي أرتكب في حق التراث الأفغاني حين نسفت حكومة طالبان في مارس 2001 بقيادة الملاّ عمر التمثالين العملاقين المنحوتين في سفح جبل باميان والذي يعود تاريخهما إلى القرن الخامس بعد الميلاد. كما أن الخطاب ليس إلا إمتدادا لنفس الخطاب الذي أحرق ألف ليلة و ليلة، وهو نفس الخطاب الذي شحذ عقلا فارغا وذراعا متشنجة لذبح نجيب محفوظ، وهو نفس الخطاب الذي يروّع السّياح الأجانب و يقتلهم حين يزورون الآثار المصرية، وهو نفس الخطاب الذي يتفيّأ الظلال المظلمة لمذهب إسلامي بيترودولاري يحرّم التشخيص والتصوير والتعبير باسم ارتداد سلفي يعتبر نفسه الملك الوحيد للحقيقة. (4) ولأنه لا تكاد بلاد في المنطقة العربية خاصة و الإسلامية بشكل عام تخلو من سرقة الآثار و تهريبها – وهو على الأقل ما نقرأه في الصحف يوميا عن سرقة الآثار، فإن هذا النزيف مضاعف أيضا بحمى موضة جديدة تتمثل في البحث عن الكنوز من طرف مشعوذين جدد، يستعينون بالتمائم وتلاوة التعازيم ويجلبون من أجل ذلك «علماء آثار» من صنف جديد يقرؤون الطلاسم ويهيمون ليلا في الخرابات والمواقع الأثرية، ينبشون الأرض كما تنبش الضباع القبور الجديدة، وهؤلاء منخرطون في شبكة غامضة للتهريب والمتاجرة بالآثار خارج الحدود... وضمن هذه الحالة القروسطية يتحالف «الفقيه» مع المشعوذ لتبديد الذخيرة الثقافية والرمزية للأمة تحالفا يصل يديه بشكل مباشر مع الأطماع الكولونيالية الناشطة منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم في انهاك هذه الحضارة وطمس معالمها. (5) وبين نسف تماثيل بوذا في وادي بانيان و نهب المتحف العراقي وفتاوى لبيع الآثار، أتذكر صورتين يحتاجان إلى التأمل والاعتبار، صورة الجندي الأمريكي عند سقوط بغداد يركب تمثال الأسد البابلي، والصورة الثانية للرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران يأخذ لنفسه صورة شخصية في متحف اللوفر أمام الثور المجنح للملك الآشوري سرجون الثاني... وبين الصورتين يتواصل النزيف. (*) - يمكن العودة إلى مقال محمد البطاوي المنشور في 06 أكتوبر على موقع «إسلام أون لاين».