سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
في دمشق العتيقة: قصة 22 رساما حولوا «حارة اليهود» المهجورة إلى حي الفنانين : النحات مصطفى علي حول مرسمه إلى معرض دائم للمسرح والموسيقى ومطعم ونزل لضيوف الفن
٭ دمشق الشروق من مبعوثنا الخاص كمال الشارني: كان لا بد أن نتمتع بالتيه في المدينة العتيقة في دمشق من غربها إلى شرقها لكي نصل إلى «حارة اليهود» في حي الأمين لأجل لقاء الرسامين العراقيين الذين حولوا هذا الحي الخرب المهجور إلى مدينة للفنون التشكيلية والمعارض الفنية. كان لنا موعد مع أحد شيوخ الفن التشكيلي في سوريا نذير إسماعيل وزوجته الرسامة عناية البخاري في مرسمهما للاطلاع على هذه الظاهرة الفنية الفريدة والتي تستحق التنويه بعد أن أعادت الحياة إلى هذا الجزء من مدينة دمشق العتيقة، وحولته إلى قبلة للفنانين والطلبة والنقاد والسياح. في الأثناء، قليل من التيه في أزقة المدينة العتيقة مثير للمتعة خصوصا صحبة الفنان التشكيلي فادي عساف: نقرأ ما هو مكتوب على بعض المعالم القديمة حتى نصل إلى الكنيسة المريمية، حيث تفاجئنا مئذنة بيضاء كبيرة وجميلة إنما بدون مسجد، نعم مئذنة إسلامية في تلاصق إحدى أشهر كنائس دمشق، ولا تفسير لها سوى الأسطورة التي رواها لنا الفنان نذير إسماعيل بطريقته الضاحكة والتي تقول إن المسيح سوف يعود في آخر الزمان لينزل على مئذنة بيضاء في الطرف الشرقي لدمشق. تاريخ الحارة المدينة العتيقة في دمشق تشبه إلى حد كبير المدينة العتيقة في تونس: أنهج ضيقة وشرفات متعانقة لكنها أضعاف مساحة مدينتنا في تونس، وهم يعملون على ترميمها وتحويل العديد من معالمها إلى مقاه ونزل فاخرة تصيب بالذهول لما فيها من جمال ومن تطوير لفن العمارة الداخلية في سوريا. أما حارة اليهود فقد عرفت عدة أسماء في تاريخها، منها «محلة الخراب» ثم «حي الأمين» نسبة إلى عالم سوري اسمه محسن الأمين كان أنشأ عدة مدارس في المنطقة وساهم في نشر العلم والمعرفة فيها. وعلى مدى القرون، عاش اليهود هنا في أمان مشهود إلى أن تم إنشاء دولة الكيان الصهيوني. والحقيقة التي يعترف بها يهود سوريا هو أنه لا أحد حملهم مسؤولية ما حدث للعرب في فلسطين واستمروا في حياتهم دون مشاكل، إلى أن بدأوا يعملون على مغادرة سوريا. أصبحت الكثير من البيوت في حالة خراب، مهددة بالسقوط، لذلك تولت وكالة تعنى بأملاك اليهود تحت إشراف الدولة السورية تأجيرها واستثمار الأجور في ترميم المباني. كما عاش فيها اللاجئون الفلسطينيون زمنا، في ظل تنوع عرقي وعقائدي كبير وتسامح مشهود له كما هو الحال في كل بقاع سوريا حيث تعيش قرابة 22 قومية وعقيدة. وفيما كان الكثير من الفنانين السوريين يبحثون عن أماكن تصلح مراسم، ظهرت فكرة تأجير البيوت القديمة لهم، وكان أولهم وأشهرهم النحات مصطفى علي الذي أصبح يدير مرسما يضم أيضا قاعة عروض وغرف إقامة لضيوفه بالإضافة إلى مقهى ومطعم جميل تحت الأرض. ونظرا لنجاح الفكرة، فقد تتالت التجارب وأقبل الطلبة والنقاد والجمهور على هذا الحي الذي كان مهجورا، فأصبح في قلب الحركة الفنية السورية في تجربة رائدة تحسب للفنانين السوريين. وفي أول الحي، زرنا أحد أقدم التشكيليين السوريين في الحي، النحات غازي عانا وهو أيضا ناقد فني معروف وأستاذ جامعي، في مرسم صغير لا تتجاوز مساحته 50 مترا مربعا هي كل ما يحتاجه لعمله الذي توقف عنه ليعد لنا القهوة. حياة سحرية يتحدث الفنان «غازي عانا» عن التجربة بحب كبير، يقول: «عادت الحياة إلى هذا الجزء من دمشق بعد أن ظل مهجورا، ونظرا لنجاح الفكرة، فلم يعد هناك مكان شاغر لمزيد من الرسامين». يستحضر لنا أسماء زملائه المشهورين ممن اتخذوا لهم مراسم في الحي أمثال شيوخ الفن التشكيلي السوري فادي اليازجي، إدوارد شهدة، غسان نعنع، عبد الله مراد ونذير إسماعيل الذي لنا موعد معه. لكن أشهرهم هو مصطفى علي الذي طور مرسمه إلى معرض دائم له ولغيره من الرسامين بالإضافة إلى تنظيم عروض الموسيقى والمسرح. لم نعثر عليه في مرسمه، بل وجدنا أنفسنا في فضاء مفتوح للعموم، وخصوصا الفنانين وكان يضيق بالسياح الأوروبيين الذين يجدون عنوان المرسم مسجلا لدى العديد من وكالات الأسفار. أما الرسام نذير إسماعيل فقد وجدناه صحبة زوجته السيدة عناية البخاري وصديقهما الرسام عبد الله مراد في مرسم لا تتجاوز مساحته 20 مترا مربعا، وليس فيه مكان لأربعة أشخاص معا بسبب اللوحات المتراصة في كل مكان وأدوات الرسم. وكما يحدث مع الأشقاء السوريين، فهم يسارعون إلى الضيافة والقهوة السورية أولا. بعد ذلك يقول لنا إن وجود الرسامين والنحاتين في هذا الحي قد مكنهم من التزاور في ما بينهم والاطلاع على تجارب بعضهم. «زيارة صديق أو ناقد أو صحفي لأحدنا، هي مناسبة لزيارة كل الفنانين هنا». يعرف الفنان نذير إسماعيل العديد من أروقة العرض الفني التي فتحت لها معارض في الحي لكي تقترب من الرسامين ولكي تستفيد من الحياة السحرية التي هبت على المكان. يدركنا الليل في حارة الفنانين، لا نحتاج إلى دليل أو مرافق، لأن المدينة العتيقة في دمشق تسهر حتى الفجر أحيانا، نلاقي على الطرقات الضيقة مئات الشباب من الجنسين يترددون على المقاهي الفاخرة والمطاعم، سياح من كل الأجناس والألوان يمارسون لعبة التيه في أزقة المدينة التي تحظى بأمان نادر في هذا الزمن.