* من مبعوثتنا الخاصة الى غزة: فاطمة بن ضو ونيس هم خط أحمر بالنسبة الى كل الفلسطينيين... هؤلاء هم الذين يحملون أرواحهم على أكفهم ويتوجهون يوميا الى الجبهة... الى خط التماس حيث يرى الموت بالعين المجردة وحيث يتوحد المقاتل مع وطنه ليترجم حبه للحياة بكرامة الى لغة أخرى... لغة السلاح لغة التضحية والفداء. انهم المرابطون... جنود الخفاء وحماة قطاع غزة. «الشروق» كانت هناك... معهم... في ليلة أشبه بالحلم.. في ليلة محت كل ما قبلها. ما أحلى الزمن... عندما يتوقف... في مكان ما من قطاع غزة التقينا... كنت برفقة صديق فلسطيني وكنا بانتظار سيارة لا نعرف لا لونها ولا شكلها ولا هوية راكبيها. الشخص الذي نسق لنا العملية اكتفى بقوله لنا: «لا تسألوا عن أي شيء... هم سوف يتعرفون عليكم». فجأة توقفت أمامنا شاحنة نزل منها شخص يحمل رشاشا... اقترب منا وقال لنا «تفضلوا». رغم الظلام الدامس تمكنت من التفطن الى أن الشاحنة لا تحمل رقما منجميا، رغم الفضول امتنعت عن السؤال... لا فائدة من سؤال لن يجيبني عنه أحد... بعد حوالي نصف ساعة توقفت الشاحنة في مكان بلا ملامح... نزلنا جميعا وما هي الا لحظات حتى تقدم منا شخص مرحبا... نظر الي وقال: «أهلا بك على خط النار» كانت هذه الجملة كافية لأحس لأول مرة منذ بداية المغامرة بخطورة الموقف. نادى الشخص على زملائه قائلا «اقتربوا يا شباب»... فجأة انبثقت من الظلام الحالك وجوه سوداء... كانوا قرابة خمسة عشر شخصا... عندما اقتربوا من أضواء الشاحنة تمكنت من تبين هيئتهم كانوا يرتدون لباسا عسكريا ويتخفون كلهم وراء أقنعة سوداء نظرت الى الأسلحة التي يحملونها... رشاشات... آر.بي.جي... كان المنظر أشبه بفيلم بوليسي وكنت في حالة عدم تصديق تقدمنا قليلا حيث رأيت عددا من مدافع الهاون مزروعة بالأرض وعددا من الشاحنات الخفيفة التي أشعلت أضواؤها احتفاء ب«الضيوف». في مكان غير بعيد اصطف عدد كبير من الدراجات النارية، نظر الي الشخص الذي استقبلنا عند وصولي وفهم فضولي وأنا اتفحص الدراجات. قال لي مبتسما، «أغلب المرابطين يأتون الى هنا على متن دراجات نارية... أغلبهم يخرج من بيته بطريقة عادية حاملا لباسه العسكري وسلاحه داخل حقيبة رياضية... ثم يتوقف عند الاقتراب من الموقع ليغير ثيابه ويرتدي قناعه». فجأة انطلق صوت من جهاز اللاسلكي الذي كان بحوزته: «انذار... انذار... استطلاع مفاجئ... على المجاهدين أخذ أقصى درجات الحيطة»... تكررت الرسالة الصوتية لثلاث أو أربع مرات. نادى الشخص بأعلى صوته على المقاتلين أو «المرابطين»، التسمية العسكرية التي تطلق عليهم، «أطفئوا أضواء السيارات... انتشروا...» لم يكد ينهي جملته حتى اختفى كل المقاتلين من أمامنا وعم الظلام الحالك المكان انبطح الجميع على الأرض في كامل جنبات المكان بطريقة شبه ميكانيكية. فهمت من مرافقي وهو يهمس لي أن طائرة مروحية اسرائيلية تحوم فوقنا طلب مني أن أنظر الى أعلى... أشار الى ضوء أبيض في السماء... هذه هي الطائرة الاسرائيلية... كان الضوء يحوم بطريقة دائرية فوق رؤوسنا دون أن نسمع له أي صوت وكان الصمت الرهيب يزيد من توتري ويضاعف من احساسي بأنني خارج الزمن لحظات مرت كالساعات... فجأة ارتفع دوي طلقات الرصاص أحسست أن قلبي توقف عن النبض هل ابتدأت الطائرة الاسرائيلية في القصف؟ كم من الوقت سنظل أحياء؟ ماذا أفعل هنا؟... تزاحمت الأسئلة في مخيلتي... نظر الي مرافقي مبتسما وهو يتفحص وجهي الذي فقد كل ألوانه وقال لي: «زال الخطر... ما سمعته كان طلقات رشاش... الشباب كانوا عم بيحيوكي (يحيونك)...» يا إلهي شخص يكلمني... هذا يعني أنني لم أمت بعد. بعد أن تأكدت أنني مازلت على قيد الحياة نظرت اليه وقلت له ممازحة: «أشكر الشباب على تحيتهم... لكن أرجو في المرة القادمة أن يقع تنبيهي مسبقا حتى لا أصاب بسكتة قلبية من حرارة التحية». رجال وهبوا أنفسهم الى الموت بعد أن زالت حالة الطوارئ واسترجعت أنفاسي بدأ مرافقي في تعريفي على المرابطين حسب رتبهم. توقفنا أمام رجل قوي البنية عرفت أنه ينتمي الى سلاح المدفعية وفهمت بعد ذلك أن كل مرابطي المدفعية يتمتعون بأجسام قوية نظرا لثقل السلاح الذي يحملونه... الى جانبه كان يقف مقاتل آخر يحمل سلاحا مختلفا قال لي مرافقي بنبرة ساخرة: «هذا قناص... يعني اعدام مباشرة لو وقع التعرف عليه أو وقع في أيدي الاسرائيليين»، ثم أضاف «في الحرب الأخيرة على غزة تمكن قناصونا من قتل 12 جنديا اسرائيليا... القناص مهم جدا... بطلقة واحدة يمكن له أن يحسم معركة بأكملها». نظرت مليا الى القناص وسألته عن اسمه... قال لي انه يدعى أبو.م. وأن عمره 34 سنة تابع قائلا: «أنا متزوج ولي خمسة أولاد زوجتي تعرف أنني من المرابطين وتشجعني هي تعرف أنني أجاهد في سبيل الله وأن هذا أقل واجب يمكن أن أقدمه لفلسطين... يجب أن نقاوم والا حرام علينا أن نعيش على هذه الأرض». سألته: «ألا ينتابك الخوف ولو للحظات؟ أجاب: «الذي لا يخاف لا يخوف لذلك فنحن لا نخاف الا من الله... عندما أكون في رباط أتجرد من كل المشاعر الأخرى ولا أفكر الا في المقاومة». غير بعيد عنه يقف أبو.أ... أحد المرابطين المشاة، أبو.أ. موظف حكومي يزاول عمله بطريقة عادية كل يوم ثم يلتحق ليلا بخط النار منذ ما يقارب الأربع سنوات، أبو.أ. أشار الى مقاتل يقف بجانبه وقال لي «أرأيت هذا المرابط انه طالب جامعي لا يتجاوز عمره 22 سنة وهو هنا منذ 5 سنوات أي منذ سن ال17... الكل هنا يحملون أرواحهم على أكفهم لكن هذا لا يمنعهم من مواصلة حياتهم العادية من دراسة وعمل وحياة عائلية... انه قدرنا... لن نحيد عن نهج المقاومة مهما كلفنا ذلك». أحد المرابطين حكى لي وعيناه تلمعان فخرا عن ابنه الذي يبلغ من العمر 12 سنة قال لي: «ابني هو الذي يناولني سلاحي ولباسي العسكري... اني أعوده شيئا فشيئا على التعامل مع السلاح وعندما يشتد عوده سيكون هنا معي حاملا سلاحه للذود عن الوطن... أنا أنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر». غرفة مشتركة للعمليات بعد تعرفي على جميع المقاتلين المتخفين وراء أقنعتهم السوداء قرر الجماعة «في حركة لطيفة» تعريفي على القائد الميداني كان يدعى أبو.ع. نظر الي وقال: «من النادر رؤية النساء في هذا المكان... على كل حال مرحبا بك يا أختي»، أبو.ع. بين لي أن المرابطين ينتمون الى قسمين: كتائب القسام التابعة لحماس وألوية صلاح الدين الجناح العسكري لتنظيم لجان المقاومة وهو تنظيم قريب من حماس مضيفا أن هنالك غرفة عمليات مشتركة تنسق عمل الفصيلين من خلال مجلس عسكري يقوم على الشورى. أبو.ع. تابع قائلا ان المرابط مثله مثل أي جندي في أي جيش يرتقي في سلم المراتب العسكرية اذ يبدأ كمرابط جندي ثم يتحول الى أمير مجموعة ثم أمير مجلس ثم أمير محور الى أن يصير أمير منطقة بعد ذلك يرتقي المرابط الى ما يسمى بأمير قاطع وهي أعلى رتبة عسكرية بالنسبة الى المرابطين سألته عن التجنيد فقال: «كل فلسطيني بامكانه مبدئيا الانضمام الى المرابطين الا أنه يجب أن يخضع قبل ذلك الى برنامج أمني نختبر من خلاله مدى جديته وندرس امكانية كونه عميلا وهي امكانية واردة وبرنامج آخر يسمى «دعوي» نعلمه من خلاله الصبر والجلد بعد ذلك يخضع الى دورة مقاتل تدوم اربعين يوما يتخصص بعدها حسب مهاراته اما قنصا أو مدفعية أو رشاشات أو دروعا الى غير ذلك». أبو.ع. أوضح لي أيضا ان هنالك شبكة من الانفاق يسلكها المرابطون في حالات الطوارئ حيث يعرف كل مرابط البيت الذي يجب أن يدخل اليه ليتوصل الى أول النفق بعد ذلك وفي حالة انقطع الاتصال مع القيادة وهذا وارد جدا يخضع كل مقاتل الى قائد منطقته... سألته بصوت خافت وكأني أعتذر عن سؤالي «والسلاح... من أين يأتي؟» أجابني بكل بساطة: «أغلب السلاح يدخل عبر سيناء لكن لكل تنظيم وحدة تصنيع خاصة به... كما أن اخواننا في الخارج يدعموننا ماديا مما يخول لنا شراء الأسلحة من هنا». أردفت قائلة: «سؤال أخير... وبعد ذلك سأصمت... ما الفرق بين المرابطين المقنعين والمرابطين غير المقنعين... هل هي مسألة رتب؟ «أجابني» المرابطون المكشوفة وجوههم كانوا مقنعين ثم عرفوا لذلك لا أحد منهم يشارك في العمليات المهمة... نحن نعتبرهم «أوراقا محروقة»... أما المرابطون المتخفون وراء اقنعتهم السوداء فلا أحد يعرفهم»، انتظرت أن يتم القائد جملته ونظرت الى مدفع هاون كان أمامي مباشرة، قال لي تلقائيا: «هل تريدين رؤية صاروخ الهاون وهو ينطلق في السماء؟». ودون أن ينتظر اجابة مني بادر المقاتلين بقوله: «يلا يا شباب... طلقة هاون للأخت»، استغرق تحضير المدفع بضع دقائق بعدها انطلق صوت القائد صائحا: «ارجعوا الى الخلف... هيا بسرعة... الى الوراء جميعا...» لحظات واندفع شيء غير مرئي من المدفع خلّف وراءه شررا... لحظات أخرى وسمع دوي هائل... كنت متسمرة في مكاني كمن فقد الاحساس بالأشياء... أفقت على صوت صديقي الفلسطيني الذي رافقني في الرحلة وهو يقول لي «أصبح الوقت متأخرا يجب أن نعود». نظرت اليه وكأني أعاتبه على جملته... فجأة أحسست أنني لا أريد المغادرة... تأملت ضوء الموقع العسكري الاسرائيلي الذي يظهر جليا وتمنيت أن أبقى ولو للحظات أخرى. عندما اقتربت مني سيارة دون رقم منجمي عرفت أنه حان الوقت لأن أذهب، لاحظت أنهم غيروا السيارة والطاقم الذي على متنها عندما صعدت على متن السيارة كان المرابطون مصطفين لوداعي، نظرت اليهم وقلت «رفعتم رؤوسنا يا شباب»... كان السائق في تلك اللحظة يهم بالمغادرة... فجأة أخرج مسدسا وأطلق عيارات من خلال نافذة السيارة... يا إلهي... تحية أخرى..