لن ألجأ إلى «مراسم الموضوعيّة» للتعبير عن سعادتي بالكتاب البكر للصديق شكري الباصومي: «مراسم الكذب». دار نقوش عربية. 2010. 128ص. خمسة وسبعون نصًّا قصيرًا مكثّفًا يكاد لا يتجاوز الصفحة. وللقارئ أن يرى في كلّ نصّ ما يريد: قرصة حنان أو لسعة نحلة أو صفعة طبيب لإنعاش مُغمًى عليه. خمسة وسبعون نصًّا مكتوبًا برهافة شاعر وعين صحفيّ وفطنة لغويّ وسخرية فنّان كاريكاتور ودقّة خبير في التشريح، تشريح أحداث زماننا وخفايا طبيعتنا البشريّة التي ما انفكّت ترتقي بممارسة الكذب إلى مرتبة الطقوس والمراسم. غاب تصنيف هذه النصوص عن غلاف الكتاب. واختار الكاتب أن لا يتعاقد مع قرّائه على هويّة نصوصه، هل هي نثر فنّي أم قصيدة نثر أم غير ذلك؟ وقد انتبه صديقنا سليم دولة برهافة الشاعر وعمق المفكّر، في تقديمه الكتاب، إلى هذا الغياب الذي لا يخلو من دلالة، مشيرًا عن حقّ إلى أنّ «الكتابة الإبداعيّة تتخطّى دغمائيّة الأجناسيّة التصنيفيّة». وإذا كان لي أن أبحث لهذه النصوص عن هويّة فلن أراها أقرب إلى شيء منها إلى مفهوم الشذرة. وقد أتيح لي أثناء ترجمتي يوميّات بودلير أن أتوقّف عند تعامله مع الشذرة في ضوء الكلمة التي اختارها عنوانًا لأحد هذه الكتب، وهي كلمة صواريخ (Fusées). وقد لاحظتُ أن بودلير اختار كلمة صواريخ عمدًا. فالصاروخ في الفرنسيّة هو الشهاب والسهم الناريّ. وهو اسم لأكثر من أداة مخروطيّة الشكل، كالمغزل. ويذكّرنا الفعل (Fuser) بمعاني الاندفاع والذوبان والالتحام وأحيانًا الموت (Achever sa fusée). أمّا العرب فكانوا يطلقون اسم الصاروخ على سهم ساقه من قصب وفي ذيله حشوة بارود. لا شيء من هذه الدلالات يغيب عن نصوص شكري الباصومي. بل إنّ هذه الدلالات تتأكّد حتى من خلال «زخّاته» الصحفيّة. وكأنّنا أمام نُصوص تُطلق مثلما تُطلق السهام أو الصواريخ. في كلّ نصّ حشوة بارود. ومع كلّ نصّ صراع مع اللغة، أي صراع مع الحياة، أي صراع مع الموت. إلاّ أنّ القوس أو الفوهة أو قاعدة الإطلاق هي هنا روح الكاتب. ولا مفرّ من أن تنطلق شذرة من روحه مع كلّ طلقة. ميزة هذه النصوص في مقروئيّتها على الرغم من كثافتها، وفي وضوحها على الرغم من إلغازها، وفي وحدتها على الرغم من نهوض بنيتها على المفارقة، وفي انفتاحها على تعدّد المعنى على الرغم من اعتماد معظمها على «القفلة». الكاتب هنا خيميائيّ: نصوصه أنابيب لتقطير الوقائع والأخبار والممارسات، واختزالها في رحيقها المكثّف، وتحويل النحاس إلى ذهب، والصحفيّ إلى أدبيّ، والتراثيّ إلى حداثيّ، والعابر إلى أزليّ، والماضي والحاضر إلى مستقبل. في هذه النصوص شعريّة لا تخشى التقرير، وتقريريّة لا يغيب عنها الشعر، ولعب لا يغني عن الجدّ، وجد لا يستغني عن السخرية، وشجن مرِح، وعنف حنون، وقسوة رقيقة. كلّ ذلك في لغة تستمدّ متانتها من الاستعمال الدارج وتستمدّ حداثتها من عراقتها المعجميّة. اختار المؤلّف عبارة «مراسم الكذب» عنوانًا لكتابه. والحقّ أنْ لا أثر لعبارة «مراسم» بهذا المعنى في لسان العرب. فقد ترسّم ابن منظور المنازل ورثى شعراء عصره الرسوم الدارسة وطبع البدو على رؤوس الخوابي بالرواسم... أمّا «المراسم» بوصفها جمعًا لمرسم الفنّان التشكيليّ أو ورشته، وبوصفها نوعًا من الطقوس التي تحفّ بهذه الممارسة أو تلك، فهو اكتشاف لغويّ لاحق! وكم وفّق الكاتب في اختيار عنوان كتابه. وكم وفّق في افتتاح كلّ نصّ بفقرة من نصّ آخر، هو في الأغلب نصّ تراثيّ وإن لم يكن دائمًا كذلك...فقد استطاع بهذه الطريقة أن يلمح إلى أنّ «مراسم الكذب» اسم لاحق لفعلٍ سابِقٍ! وهل الإنسان في النهاية سوى حيوان كاذب؟ إلاّ أنّ الكذب درجات! ثمّة منه ما هو ضروريّ للخروج من الغابة وللمحافظة على النوع أو لتيسير «العيش معًا» كالأدب واللياقة. وثمّة منه ما هو إجرام في حقّ النوع البشريّ. وهو ما يتصدّى له هذا الكتاب الجريء الجميل. كتاب أدعو قرّائي إلى أن يذهبوا إليه كي يجدوا فيه الكثير من أنفسهم وزمانهم، وكي يروا كم أنّ نصوصه ممتعة ولاذعة، كما هو ممتع ولاذع طعم الضحك على رأس الميت، والصبر الطويل، والانتظار الخائب، والهريسة التونسيّة.