في تاريخ الأدب العربي قصص ونوادر وأخبار طريفة تنسب الى الملوك والأمراء والولاة تنطوي على الكثير من الملح الذكيّة والحكايات المرويّة عن أيام حكمهم وسلطانهم بما فيها من عدل وظلم، وحرب وسلم، وعطاء ومنع ولم تخلُ هذه الاخبار من حوارات ولقاءات مع العلماء والشعراء والأدباء بعضها يعكس حقائق أثبتها المؤرخون، وبعضها منمّق ومزخرف بخيال واسع ومبالغات مجنحة، ولكنها محبّبة الى النفس في كل الأحوال وما الخيال الا صور قد يؤيدها الواقع في الكثير من الأحيان، وفي هذا المجال نورد قصة ملك شاهد ذات يوم وهو يتفرّج من أعلى قصره امرأة بارعة الجمال وهي على سطح دار بجوار قصره فخامره حبّها وشغف بها وحدّثته نفسه بأن يسعى إليها وينعم بالقرب منها، ولما سأل عنها بعض جواريه أخبرنه بأنها زوجة غلام اسمه فيروز وهو من غلمان الملك. ففكر الملك في ابعاد زوجها ليخلو له الجو ويتمكّن من الوصول اليها فدعاه وسلّمه رسالة وأمره بإيصالها الى بلاد بعيدة فلبّى الغلام الأمر وتجهّز للسفر وفي الليل وضع الرسالة تحت رأسه ولما استيقظ في الصباح ودّع زوجته وانطلق الى حيث أوفده ملكه... وهنا توجّه الملك خفيّة الى منزل فيروز وطر ق الباب، فقالت الزوجة: من الطارق؟ فقال أنا الملك سيّد زوجك ففتحت له وأحسنت استقباله ولم يدر بخلدها أنه جاء ينوي بها سوءا (وكانت زوجة عفيفة طاهرة حافظة للعرض) ثم إنها سألته عن سبب قدومه في غياب زوجها فقال لها: جئتك زائرا، فقالت له: أعوذ بالله من هذه الزيارة وما أظنّ فيها خيرا، فقال لها: ويحك أنا الملك وما أظنك عرفتني، فقالت له: قد علمت أنّك الملك ولقد سبقك الأوّلون حين قالوا: سأترك ماءكم من غير ورد ... وذاك لكثرة الورّاد فيه إذا سقط الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجنّبت الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه ويرتجع الكريم خميص بطن ... ولا يرضى مساهمة السفيه ويعجبني أيها الملك أيضا قول الشاعر: قل للذي شفّه الغرام بنا ... وصاحب الغدر غير مصحوب والله ما قال قائل أبدا ... قد أكل الليث فضلة الذيب ثم قالت له: أيها الملك تأتي الى موضع شرب كلبك لتشرب منه؟ وهنا استحيا الملك من كلامها واستقبح ما كان أقدم على فعله فخرج من عندها ولكنه نسي شيئا من لباسه، أما الزوج فيروز فقد تفقّد الرسالة وهو في طريقه فلم يجدها وتذكّر أنه وضعها تحت رأسه فعاد الى منزله ليأخذها وهناك رأى آثار الملك فعرفها فما كان منه الا أن سافر وأنهى المهمة ثم رجع الى منزله وسلّم على زوجته واشترى لها ملابس وهدايا وحملها الى دار أبيها وقطع زيارته عنها مدة طويلة، فاشتكاه اخوها الى القاضي الذي صادف أنه كان عند الملك، قال أخو الزوجة «عن طريق الكناية والتلميح» إني أجّرت هذا الرجل بستانا سالم الحيطان ببئر ماء معين عامرة، وأشجار مثمرة، فأكل ثمره وهدم حيطانه وأخرب بئره. فالتلفت القاضي الى فيروز يسأله عن رأيه في هذه الدعوى فقال له: أيها القاضي قد تسلمت هذا البستان وسلّمته إليه أحسن مما كان، فقال القاضي لأخي الزوجة هل سلّم اليك البستان كما كان؟ فقال: نعم ولكنني أريد منه سبب ردّه، قال القاضي: ما قولك يا فيروز؟ قال: والله ما رددت البستان كراهة فيه، ولكنني جئت يوما اليه فوجدت أثرا لأسد فخفت أن يغتالني فحرّمت دخول البستان على نفسي إكراما للأسد (وهو هنا يشير الى دخول الملك الى منزله في غيابه) ولما سمع الملك كلام فيروز وعلم أنه يعرّض به وبزوجته تكلّم وقال: يا فيروز إرجع الى بستانك آمنا مطمئنا فوالله إن الأسد دخل البستان ولم يؤثّره فيه أثرا ولا التمس منه ورقا ولا ثمرا ولم يلبث فيه غير لحظة يسيرة وخرج من غير بأس والله ما رأيت مثل بستانك ولا أشدّ احترازا من حيطانه على شجره، ولما سمع فيرز مقال الملك اطمأن قلبه وأرجع زوجته ولم يعلم القاضي ولا غيره بما وراء هذا الحوار...