بدأ الحديث في الأوساط الثقافيّة الأنقلو سكسونيّة عن «التطهير الثقافي» الذي أقدم عليه الاحتلال الأمريكي بعد دخوله العراق، بل وجدنا كتبا كثيرة تنعطف على هذا «التطهير» بالنظر والتأمّل، بعد فوات الأوان طبعا، وتوثّق لعمليات السطو والنهب التي طالت آثار العراق ومخطوطاته وتحفه النفيسة. ولعلّ أهمّ هذه الكتب وأولاها بالعناية الكتاب الموسوم ب«التطهير الثقافي في العراق، لماذا نهبت المتاحف، وأحرقت المكتبات ، وقتل الأكاديميون» كتبه عدد من الباحثين، ونشرته دار « بلوتو بري» سنة 2009 . ومن المعروف أنّ سلطات الاحتلال قد نهضت منذ دخولها العراق بوظيفتين اثنتين: امّا الوظيفة الاولى فهي «تنظيف الأرض» من كلّ المناوئين للاحتلال وذلك باستخدام شتّى وسائل القمع والاضطهاد.... وامّا الوظيفة الثانية: وهذا مدار اهتمامنا، فهي «تنظيف الذاكرة» من كلّ ما نقش عليها منذ آلاف السنين حتى تتحوّل الى ذاكرة بيضاء، عمياء، خرساء، وظيفتها الأولى النسيان لا التذكّر، شطب الماضي لا استحضاره. وأهمّ وجوه هذا التنظيف نهب آثار العراق وسرقتها. وهذه السرقة وذلك التنظيف لم يكونا من عمل الغوغاء والعامّة، كما كان يردّد الاحتلال الأمريكي، وإنّما كانا نتاج تخطيط مسبق. وهذا ما أكّده مدير المتحف العراقي السابق حين قال: «إنّ عمليّة النهب التي تمّت خلال أول أيام الاحتلال سنة 2003 قد قادها لصوص محترفون، يعرفون هدفهم بالتحديد» ويضرب مثالا على ذلك فيقول: «...إنّ هناك في متحف العراق، نسخا طبق الأصل عن «المسلة السوداء» التي خطّت عليها شريعة حمورابي، مع العلم انّ المسلّة الاصليّة موجودة في المتحف البريطاني، لكنّ اللصوص لم يسطوا على مسلات المتحف العراقي لمعرفتهم بأنّها منسوخة... بينما اتّجهوا الى كلّ ما هو نفيس ونادر ويختصّ به متحفنا دون متاحف العالم وسطوا عليه» ويضيف قائلا: «هكذا في ظرف وجيز سرقت 15 ألف قطعة ... لتظهر بعد أيّام في اسرائيل وأمريكا ولندن...». ويستحضر مدير المتحف، بألم كبير، إعراض الجنود الأمريكيين الذين كانوا يقفون على بعد خمسين مترا من المتحف عن التدخل لحماية الآثار العراقية وصدّ اللصوص عن الظفر بكنوز لاتقدر بثمن. والواقع أن هذا الرفض يندرج، في نظر كتّاب « التطهير الثقافي «ضمن سياسة استعماريّة محكمة تستهدف الذاكرة العراقيّة». فخطّة الاحتلال تتمثل، حسب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، «في إعادة العراق الى الخلق الأول... الى البداية... وتنظيف اللّوح هو الشرط الأوّل لبداية جديدة لدولة جديدة يتمّ فيها قطع صلة العراق بالماضي». وأوّل عمل كان ينبغي القيام به لتحقيق عودة العراق الى عام «الصفر» هو تجريده من ذاكرته، أي من تاريخه، أي من هويته، أي من قوته المبدعة. إنّ المحو الثقافي كما أكّد مؤلفو كتاب «التطهير الثقافي» استخدم في كلّ العصور، وسيلة للهيمنة مشيرين الى انّه اتخذ عدّة أساليب منها «تدمير الرموز». والمتأمل في كلّ القرارات التي اتخذها الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر بدءا من القرار الأول وصولا الى القرار التاسع والتسعين يلحظ أنها تستهدف كلها، في نظر هؤلاء المؤلفين، القضاء على منظومة الرموز التي يمتلكها العراق، أو افراغها من معانيها، أو تحويلها الى مجرد علامات لا تنطوي على أيّة قيمة... في هذا السياق سياق تدمير الرموز يندرج محو الآثار بوصفها من أهم رموز العراق وفي هذا السياق أيضا تندرج مطاردة علمائه ومثقفيه... وتلك قضية أخرى.