«التاريخ يبدأ من سومر وليس من حرب الخليج» وفق المقولة الشهيرة للمؤرخ الامريكي صامويل نواه كرامر، وكذلك محنة العراق التي بدأت منذ سبعة آلاف عام مع نشوء مدينة سومر... العراق بلد الذهبين: الازرق (الماء) والاسود (النفط)، وكذلك بلد الثروة التي لا تقدر بثمن: ثروة التراث البشري حيث نشأت الحضارة الانسانية. ليست المرة الاولى التي يتعرض فيها مهد الحضارة للنهب، غير أن العراق خرج دائما منتصرا على أعداء الحضارة منذ ما لا يقل عن سبعة آلاف عام. * الحلقة الأولى يقول عالم الآثار الامريكي ايميريك مارشال واصفا ما فعله الجنود الامريكيون ومرافقوهم في متحف بغداد: «كانت غزوة، غارة حقيقية: حطموا التماثيل الضخمة والاسود البابلية والرسوم الجدارية العائدة الى خمسة آلاف عام ثم نهبوا القطع الاثرية الثمينة، كم كان ذلك فظيعا». إنهم ينهبون تراث البشرية الذي يقول عنه العالم ماغواير جبسون، أستاذ حضارة بلاد ما بين النهرين في جامعة شيكاغو متألما: «العراق هو مهد الحضارة. هناك ظهرت أول المدن، أول كتابة، التأملات الانسانية الاولى حول علاقة الانسان بالله، بالموت، أول إبداع بشري معروف»... ما أشبه ذلك بما يقوله المؤرخ العربي ابن الاثير عن هجمة المغول في القرن الثالث عشر للميلاد عندما دخلوا بغداد: «انتزعوا حتى أبواب المساجد وقباب بيوت الصلاة»... وفي ما كانت متاحف العراق تتعرض للنهب المنظم بادرت القوات الامريكية الى حماية مبنى وزارة النفط العراقية التي لم تصبها رصاصة واحدة. أما الدكتور دوني جورج المدير العام للابحاث الاثرية في متحف بغداد فقد اتهم عمدا القوات الامريكيةالمحتلة بالامتناع عن التدخل لمنع النهب المنظم. يقول: «كانوا يراقبون بعين غير مبالية طيلة خمسة أيام قبالة متحف بغداد» ويشير الى أن بضعة جنود ومدرعة واحدة كانوا كافيين لحماية تاريخ البشرية. وبالنسبة للدكتور دوني جورج فإن لصوص متاحف بغداد كانوا محترفين: كانوا يعرفون جيدا القطع الاثرية التي سيسرقونها وكانوا مجهزين جيدا بالمعدات التقنية لانتزاعها. لكن قوات الاحتلال لم تتوقف عند حد مراقبة اللصوص بل تجاوزتها الى ضرب المتاحف العراقية بالقنابل الانفجارية رغم أن المئات من العلماء قد قدموا الى الحكومتين الامريكية والبريطانية خرائط مدققة حول 4 آلاف موقع أثري تعتبره اليونسكو تراثا انسانيا مسجلا، كما تم وضع علامات عملاقة تحمل شعار اليونسكو فوق سطوح هذه المواقع والمتاحف لكن القوات الغازية لم تتردد في قصفها مرارا وبإصرار واضح. لما قيل لوزير الحرب الامريكي دونالد رامسفيلد عن عمليات النهب الواسعة والمنظمة تحت أنظار الجيش الامريكي ضحك ساخرا وأصر على أن المسألة كلها لا تتجاوز مزهرية واحدة يتم تصويرها بطرق مختلفة، وأن الجيش الامريكي لا يمكن أن يكون مسؤولا عن مجموعات الناس الهائجين. دفع موقفه ذاك السيد مارتن سوليفان المستشار الثقافي للبيت الابيض الى الاستقالة احتجاجا فتم تعويضه بسرعة عجيبة بمحامي تجار الآثار «أشتون هاوكنس». وسيكشف السيد سوليفان للصحف الامريكية أن تجار الآثار كانوا موّلوا بسخاء الحملة الانتخابية التي قادت جورج بوش الابن الى البيت الابيض ومعه رامسفيلد وبقية أصدقائهم. وقبل الهجوم على العراق تولت منظمة اليونسكو ومعهد الآثار الامريكي تنبيه البنتاغون الى ظهور بدايات النهب المنظم لتراث العراق وسلماه ملفا حول مواقع الآثار لضرورة حمايتها، لكن رامسفيلد كالف السيد أشتون هاوكنس بهذا الملف وسلمه وثائق اليونسكو. السيد هاوكنس ليس مختصا في حماية الآثار بل يمثل لوبي أمريكي يضم تجار الآثار الخواص الامريكيين يطلق عليها «المجلس الامريكي للسياسة الثقافية» وهي تهدف الى تمكين أعضائها من شراء آثار الشعوب الفقيرة لذلك كان أول شيء فعله هاوكنس هو دفع الحاكم الامريكي الى تغيير قوانين العراق حتى يسمح لاعضاء هذه الجمعية بتهريب الآثار العراقية المنهوبة في حماية القانون والجيش الامريكي طبعا». يضيف إيمريك مارشال في تقريره حول نهب آثار العراق: «يوجد في مطار تل أبيب مخزن متخصص يبيع الآثار العراقية المنهوبة معفاة من الضرائب». من هم غزاة العراق عبر التاريخ؟ لماذا هذا التكالب التاريخي على غزو العراق وإخضاعه؟ لماذا كل هذا الحقد على العراق؟ هذا ما سنراه على مدى الحلقات الموالية.