وصلتني قبل أيّام أحْدَثُ إصدارات دار مسكلياني للنشر. روايتان مترجمتان صدرتا ضمن سلسلة جديدة مخصّصة لترجمة عيون الأدب العالميّ. والروايتان هما «حديقة الصخور» لليونانيّ كازنتزاكي من تعريب أسامة أسبر، و«ساعي بريد نيرودا» للشيليّ أنطونيو سكارميتا من تعريب صالح علماني. الروايتان علامتان من علامات الرواية العالميّة سبقَ أن قرأتُهما أكثر من مرّة. وهما تستحقّان وقفة متأنّية للتأمّل في ما أضافته الترجمة بالنظر إلى قيمة المترجِمَيْن. ولعلّ اختيارهما لتدشين هذه السلسلة غير مستغرب من دار يشرف عليها شاعر وباحث ومن سلسلة يشرف عليها قاصّ وروائيّ. إلاّ أنّي رأيتُ أن أترك كلّ ذلك إلى حين وأن أقتصر في هذه البطاقة على التنويه من خلال هذه الدار بما أصبح يشكّل ظاهرة إيجابيّة في ساحة النشر التونسيّة. أقصد تعدُّدَ دُورِ النشر الجديدة التي يشرف عليها شباب من الكُتّاب والباحثين والإعلاميّين والشعراء والقصّاصين والمترجمين. هؤلاء «الناشرون الجُدد» استطاعوا في السنوات الأخيرة وبإمكانيّات متواضعة في أكثر الأحيان، أن يضخّوا دماءً جديدة في ساحة النشر التونسيّة. فجأة إذا الكُتُب أكثر أناقة وأوضحَ حضورًا وأجملَ أغلفة وأقرب في مضامينها إلى ما يحرّك السواكن. حتى كدنا نقول عند مُقارنتهم ببعض «الناشرين القُدامى» ودون تعميم «رُبَّ تلميذِ فاق أستاذه». والأجمل من هذا كلّه أنّ هؤلاء الشباب غيّروا الكثير من قواعد التعامل التي سار عليها زملاؤهم «الكبار». فهم غالبًا ما يستعينون بمبدعين للإشراف على السلاسل ولتكوين لجان قراءة. وهم كثيرًا ما يسعون إلى حقوق الترجمة. بل إنّهم لا يتورّعون في أحيان كثيرة عن الذهاب إلى الكتّاب بحثًا عن جديدهم. فإذا نشروا الكتاب صاحبوه في الإعلام وأحيوا له حفلات التوقيع وعقدوا له الندوات. وهي أمور يتغافل عنها أو يترفّعُ عنها أو يتجنّبها الكثير من الناشرين «المكرّسين»، دون أن نعرف ما يُقعدهم عنها، التخمة أم الاستخفاف بالمهنة؟! وحتى لا نظلم أحدًا، لِنَقُلْ إنّ الناشر التونسيّ القديم، ودون تعميم، جزء من منظومة النشر العربيّ التي أصبحت «مدرسةً» يتخرّج منها الجميع. فإذا هم يُعاملون الكُتّاب بطريقة واحدة، ويتكلّمون لغة واحدة، وكأنّهم يلقون درسًا محفوظًا مُلَخَّصُهُ أنّهم خاسرون! وأنّهم منخرطون في جمعيّة للرفق بالكاتب الذي لا قرّاء له! وأنّ على الكاتب أن لا ينتظر منهم حقوقًا! وأنّهم ينشرون الكتب من باب التضحية والنضال! والناشر التونسيّ من هذه الناحية تلميذ نجيب من تلاميذ هذه المدرسة، يعاني الصعوبات نفسها ويسلك السلوك نفسه ويصحّ فيه ما يصحّ في غيره. إلاّ أنّه ودون تعميم أيضًا، يتميّز عن زملائه المشارقة وحتى المغاربة، بأمور عديدة، من بينها أنّه لا يبدو مقتنعًا أصْلاً بقيمة الكاتب التونسيّ. لذلك لا يؤمن بجدوى إيصال كتابه إلى أبعد من المطبعة بكثير! الناشر العربيّ بشكل عامّ يُشارك في معارض الكتاب، وينتقل بمنشوراته من عاصمة إلى أخرى، لأنّه مؤمن بالكتّاب الذين ينشر لهم، ويعرف أنّ لكُتُبهم سوقًا بحجم الناطقين بالعربيّة، وفهِمَ منذ مدّة طويلة أنّ سوق الكتاب أبعد من حدود معيّنة، وأنّ الكتاب بضاعة يمكن ترويجها والكسبُ من ورائها، عن طريق عرضها على أكبر عدد ممكن من القرّاء الممكنين. أمّا الناشر التونسيّ مع حفظ المقامات واحترام الاستثناءات التي تُذكَرُ فتُشكَر، فإنّه في الأغلب ضيّقُ الأفق قليل الحركة، لا يوزّع الكتاب إلاّ على بضع مكتبات، معوّلاً على شراءات وزارة الثقافة. محمّلاً الكاتب مسؤوليّة التوزيع والترويج وأحيانًا كلفة النشرِ. بل هو كثيرًا ما يحرمُ الإعلاميّين من منشوراته، بتعلّة أنّه جرّبهم فلم يصحوا، وأهداهم نُسخًا فلم يكتبوا! على النقيض من هذه الذهنيّة المريضة، يبدو الناشرون الجُدُد أكثر حيويّة وأكثر حركة وأكثر تطلّعًا إلى أفق القراءة في سياقها العربيّ الواسع. لأنّهم في النهاية أكثر إيمانًا بالكتاب التونسيّ، وأكثر احترامًا للكتّاب التونسيّين، وأكثر ثقة في قدرة الكتابة التونسيّة على الإقناع حيثما أتيح لها أن تصل. لهذا السبب وغيره أجدني متفائلاً بهذا الشباب الناشر المتّقد حماسة. ولعلّ الكتابة التونسيّة تجد فيهم ما كانت تنتظره من رافد ضروريّ لعمليّة الإبداع. إذ ما معنى أن نكتب إذا لم ننشر؟ وما معنى أن ننشر إذا لم نوزّع؟ وما معنى أن نوزّع إذا لم نتابع الكتاب بما يلزم من النشاط الثقافيّ والإعلاميّ الموازي، كي نصنع منه «حدثًا» قادرًا على الظهور (إن لم يكن على المنافسة) في زحْمة الأحداث؟