٭ يكتبها اليوم الأستاذ جمعة ناجي بداية في ذكرى انطلاقة فتح... لأولئك الفدائيين الشجعان من مقاتلي العاصفة فتح وكل الفدائيين الراقدين شهداء في ثرى فلسطين وفي كل ثرى... لأولئك الاخوة والاصدقاء الذين نفتقدهم مع مشرق كل ذكرى لانطلاقة فتح وكل مشرق يوم... لأولئك الجرحى الذين غرسوا سيقانهم وزنودهم وحبات عيونهم وقطرات من دمائهم في أرض فلسطين... لأولئك الأسرى البواسل الذين أنفقوا زهرة العمر خلف قضبان الاحتلال سواء من كتب له طول العمر منهم أو قضى شهيدا، لهم عهد الوفاء كيفما استدار أو غدر «الزمان» وكيفما حال بفتح الحال! وبداية أخرى حين تعلق أطر الحركة خارج الوطن وتنعدم الحياة الداخلية، حين يقعد أعضاء مؤسسون وكوادر تاريخية عن الواجبات والحقوق بينما الوطن لا يزال محتلا فإن من حق هؤلاء التعبير عن آرائهم في كل المنابر الوطنية المتاحة لأن فتح لكل مناضليها ولأن الوطن أولا ولكل أبنائه ولأنه لا يمكن القبول بمحو الدور والإرث التاريخي لهذا الجيل من المناضلين داخل الوطن أو في الشتات حيث كان مهد الانطلاقة، ولأنه لا يمكن القبول بتفكيك الهياكل القديمة لفتح على خطئه دون أن يتلازم ذلك مع احترام كامل للحقوق المكتسبة لمناضلين ساهموا بكل اخلاص في صياغة تاريخها ومجدها خصوصا ونحن أمام عدو يجند في معركته ضد شعبنا وقضيتنا حتى المصابين بالسيدا في صفوفه... واذ نستعرض تلك الحقبة من نضال أولئك الفدائيين طلائع الفكرة وأبطالها ورموزها فلا أظن أن ثمة سياسيا أو مثقفا أو مواطنا كتب له طول العمر ممن عاصروا تلك الحقبة في عالمنا العربي أو محيطه العالمي والدولي الا وصحا يوما على أنباء العمليات الفدائية التي قامت بها قوات العاصفة الجناح العسكري لحركة فتح في السنوات المبكرة من الثورة كما لا أظن أن أحدا من شرفاء ذلك الجيل العربي الا وتمنى المشاركة مع أولئك الفدائيين في عملياتهم ضد الكيان الصهيوني الغاصب... في تلك السنين حشدت فتح أنصارا لها في كل الساحات خصوصا في ساحاتنا العربية من أولئك الإخوة الذين كانوا بالإضافة الى إيمانهم بعروبة فلسطين وشرعية كفاحها كانوا يتطلعون لفتح مخلصا مما لوثته سنوات الهزائم والانتكاسات، كما يرون في فتح عنوانا لكرامة أهدرتها الخيبات «العربية» ولطالما شكل ذلك الجيل خصوصا من الوطنيين العرب سندا لفتح وللثورة الفلسطينية ومدافعا عنيدا عن حق الشعب الفلسطيني وثورته المسلحة (بعد فشل الشرعية الدولية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني) في النضال من أجل الحرية ولم يبخل ذلك الجيل بكل ما هو متاح لدعم الثورة والدفاع عن الفكرة بل وزج بالآلاف من أبناء الأمة في السجون جراء تلك المساندة بل المشاركة... وفي تلك السنين عمدت فتح حركة للشعب الفلسطيني وقائدة لنضاله سواء عبر عملياتها الفدائية وقوافل الشهداء أو عبر شعار الوحدة الوطنية على أرض المعركة نظرية وتطبيقا أو عبر التنوع الذي أتاح لكافة الوطنيين بخلفياتهم الايديولوجية المتباينة الانخراط في أطر الحركة وهياكلها ومؤسساتها بما أثرى خطابها وأدبياتها وبرنامجها السياسي ومنحها القوة والمناعة كي تواصل الطريق موحدة على درب التحرير. وفي تلك السنين كان مقاتلو العاصفة مثلا أعلى في الفداء والزهد والتواضع والايثار والإخلاص، لم يكن هناك مرتبات أو «موازنات» بل لم يكن أحد من أولئك الفدائيين يعرف حتى «اشارة» الدولار ولا معنى الأسفار بالدرجة الأولى ولا فنادق النجوم الخمس لم يكن يعرف العطور الباريسية... كل ما كان أردية عسكرية وبنادق ومعلبات... كل ما كان يتنسمه الفدائي عطر الأرض والهشيم والصفصاف والدفلة على مشارف الوطن... كل ما كان هناك قطرات ماء تسيل من أحذية الفدائيين كلما عبروا النهر الى الوطن أو عادوا منه الى قواعدهم... كل ما كان هناك رزم من منشورات بأربع كلمات: العاصفة مرت من هنا! حيث كانت تلقى في اعقاب كل عملية فدائية لتلحق بها الريح صوب بلداتنا وقرانا ومدننا المحتلة في هدف معنوي مرسوم... كل ما كان هناك أننا أصحاب قضية تحتم علينا التخلي عن كل اغراءات الحياة من أجل حياة حرة كريمة للوطن... في تلك السنين وبتضحيات الشعب الفلسطيني وثورته وشهدائه تبوأ الشهيد ياسر عرفات مكانه في الصف الأول من زعامة الثورة العالمية وراحت فتح تشرع معسكراتها في سوريا ولبنان والاردن والعراق لتدريب الثوار والحالمين بالعدل والحرية من كل جنسيات العالم. واذ ارغمت فتح على مغادرة ساحات المواجهة مع العدو الصهيوني على حواف الوطن وحل عصر (التسويات السياسية) وأوهامها وانطلاقا من حقيقة أن ترفيه الثورات هو المدخل لتحطيم روحها الوطنية وازالة كل الأخطار المحتملة من شرارتها صوب (المحيط) راح المال السياسي يتدفق على نحو موجه خصوصا من بعض النفطيات العربية بما أدى الى ترهل الحركة وتمييع نهجها الثوري وانقلاب المعايير التنظيمية والسياسية التي طالما طبعت نضالها وهو ما أدى لاحقا الى زعزعة مكانتها كما راحت تشهد انحسارا ملموسا في التأييد الشعبي عربيا والذي حظيت به في سنوات الكفاح المسلح وكذلك بالنسبة الى العديد من الحركات الوطنية العربية وان بقيت فتح رغم ذلك كبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كما بقيت روح فتح وطنية رغم كل ما أصاب جسدها من علل... وتمر السنون... تعبر فتح الى الوطن المحتل في ضوء اتفاقيات أوسلو لتواصل التغريد ولكن في القفص وبرغم ذلك فقد استمر أبناء فتح في تقديم التضحيات العظيمة من شهداء وأسرى هم الأكثر عددا من بين كل الفصائل الشقيقة. أما على صعيد النظام الأساسي فقد توقفت الحياة الداخلية، علقت الأطر وتوارت المركزية الديمقراطية وباتت هياكل فتح التنظيمية مكشوفة للاحتلال بما يتنافى وجوهر فتح كحركة تحرير وطني في أرض محتلة، أما الساحات الخارجية لفتح فلم تكن أفضل حالا مع توقف دورتها الدموية واستفحال الفوضى السياسية التي قاد اليها انفصام الخطاب السياسي من خلال التصريحات المتباينة لقادة الحركة والناطقين باسمها على الفضائيات كما راحت المواقف السياسية والوثائق التنظيمية تؤخذ «طوعا» من مواقع الانترنيت! وهو ما ضاعف من ترهل تنظيم فتح حتى بات أقرب الى وصفه بجمهور فتح منه الى تنظيم فتح! تفاقم ترهل الحركة... ضاع تعريف فتح بين كتائب الأقصى المسلحة والمقاتلة ضد العدو وبين خطاب المفاوضات المجرد من المقاومة المسلحة، بدت خزينة فتح خاوية وتوالت الأسئلة الكبيرة بلا جواب حتى في المؤتمر السادس لفتح... كيف خسرت فتح غزة... كيف خسرت الانتخابات التشريعية... كيف امتهنت كرامات أسر الشهداء من خلال المرتبات بالغة التواضع وغير اللائقة لأبطال افتدوا وطنهم بحياتهم مخلفين أيتاما وأرامل و«زغب الحصى»، ومن المسؤول عن كل هذه الفجوات الاجتماعية بين أخوة الأمس... لماذا قررت «مركزية» فتح اجراء الانتخابات البلدية ثم ألغتها؟.. لماذا يصارع بعض الاخوة على الحقائب الوزارية بينما أداروا ظهرهم للمقاومة الشعبية في وجه الجدار والاستيطان والتهويد؟ وأين هم مئات الآلاف الذين بلغنا عنهم في اجتماعات اللجنة التحضيرية الموسعة، وما معنى العضوية في فتح ان لم توجه ضد الاحتلال والاستيطان كأولوية؟.. لماذا أنشئت غرف عمليات لدعم نماذج كانت قيد المساءلة قبل وثوبها الى عضوية «اللجنة المركزية»... لماذا يتم اقصاء وتهميش ومصادرة كل دور للمناضلين القدامى وحتى تقطيع الأواصر الانسانية معهم، لماذا بدت «قيادة الحركة» وقد خرجت عن شعارها الوطني والانساني النبيل: «الكرامة لكل مناضل» حين أحالت كل متفرغيها على التقاعد في جيش التحرير وجلهم في الاربعينات والخمسينات من العمر بما ترتب عليه من خسائر على صعيد مرتباتهم، ثم لماذا تقاعست القيادة في الدفاع عن حقوقهم حين فرض (الجيش) نظاما تعسفيا على الاخوة الذين لم تتمكن السلطة من اعادتهم الى وطنهم، ذلك النظام الذي أرسى تمييزا ظالما بين الاخوة في الداخل وزملائهم في الخارج ممن يتمتعون بنفس الرتب العسكرية والمدنية مع امتيازات أخرى مكنت الاخوة في الداخل من قروض ساهمت في استقرار أحوالهم الاجتاعية (وهذا حقهم) اضافة الى فرص العمل المتاحة لهم على نحو أوفر في وطنهم بعد التقاعد، والتكافل الاجتماعي المتاح هناك في الوطن... ان الوفاء لحركة فتح يتطلب تجنب كل أشكال الرياء السياسي الذي طالما ساهم في بلوغ الحركة ما بلغته من وهن وترهل وأخطاء وهو ما يتطلب امتلاك الشجاعة الكافية للمطالبة باعادة النظر في النهج السياسي المتعثر والخاطئ واعادة ترتيب البيت الفتحوي وتجديد أطر الحركة بعيدا عن قفص الاحتلال وكاميراواته وتأشيراته، والمطالبة أيضا بانهاء كل مظاهر الترف والتمييز ومعالجة قضية الوحدة الوطنية بمنطق الحركة الأم بل وبمنطق (أم الولد) المطلوب تقسيمه، وفوق ذلك كله تجديد الهياكل التنظيمية داخل الوطن وخارجه لتكون مؤهلة بجدارة كي تواصل المقاومة بكل أشكالها ضد عدو لن يستجيب حتى (لتسوية في منتصف الطريق) الا اذا أدمته المقاومة وركعته. لقد قادت فتح وكبرت على أرض المعركة، ونحلت فتح حين «عمنا» في سراب التسوية، فهل تعيد فتح تأهيل نفسها لانجاز الوعد بالنصر أم سيؤول ذلك التاريخ المجيد والحافل الى مجرد سطور كتبت على الماء طواها الموج ومضى، وتلك ستكون أسعد لحظات العدو الصهيوني بل وكل أعداء الثورة.