بعد عدد من الروايات المهمّة، من بينها «القمر والأسوار» و«الوكر» و«خطوط الطول خطوط العرض» وخاصّة «الوشم» التي تكاد لا تغيب عن قائمة أفضل الروايات العربيّة، ها هو عبد الرحمان مجيد الربيعيّ يمنحنا رواية جديدة ليس من شكّ في أنّها ستلفت انتباه القرّاء والنقّاد. أعني رواية «نحيب الرافِدَيْن» الصادرة هذه الأيّام (دار نقوش عربية. 692 ص). رواية هائلة مهولة يخترقها دخان الحرب العراقيّة الإيرانيّة طيلة ثمانينات القرن العشرين. نصطدم في صفحاتها بجراح الشرق الأوسط، بل بجراح البلاد العربيّة كلّها. ويُحكم الروائيّ نسْجها من خلال مصائر شخصيّات من لحم ودم، يتابعها وهي تصارع الحياة وتدافع عن إنسانيّتها، فتخسرها أو تلوذُ بها إلى أنواع شتّى من الملاذات. فإذا هي حيّة ميتة مستفزّة طريفة ساخرة جادّة ماجنة مأساويّة كارثيّة، بعضها مُحبّب، بعضُها مُنفّر، بعضُها مُقرِف، لكنّها ترسخ في الذاكرة، كاشفةً حتّى عن أسمائها الحقيقيّة على االرغم من أقنعتها الروائيّة. رواية كاتب يشهد على زمنه وعلى نفسِهِ وعلى مُعاصريه. يتعرّى ويُعرّي، طارحًا وجهة نظره روائيًّا، بجرأة محارب يعرف أنّ لكلٍّ حقيقته. وأنّ الكثيرين قد يختلفون معه في قراءة هذه الحقيقة. لكنّه لا يبالي بكلّ ذلك، كاتبًا شهادته على كلّ هذا الذي يُثخن جسد بلاده، من الانقلابات والحروب والمجازر والأحلام المُجهضة والأعمار المهدورة، إلى صراعات المذاهب والأعراق والطوائف والخارج والداخل، حتى لكأنّنا أمام واقع أغرب من الخيال. لعلّه يفهم لماذا حدث ما حدث؟ هذا إذا كان واقع العراق قابلاً للفهم أصلاً أو قابلاً للتصديق. ولعلّ الأمر يصحّ في أكثر من بلد عربيّ حيث لم يعد العقل قادرًا على التعقّل وهو في فم الوحش. ولم يعد من حلٍّ غير إتاحة الفرصة لأكثر من رواية، لأكثر من مرآة، تقول المكان وتاريخه وفقًا لوجهات نظر متقابلة، لعلّ تقابُل المرايا يُظهِرُ الصورة. من هذه الزاوية ليس من الجائز مُطالبة الروائيّ بالموضوعيّة. خاصّة حين يكون مثل الربيعي في هذه الرواية، شخصيّة محوريّة وجزءًا ممّا يحدث. ولعلّه أراد أم لم يرد، يدافع عن خياراته أيضًا بواسطة الكتابة، وكيف له أن لا يفعل مادام هو من ينتقي التفاصيل والحكايات ويحدّد زاوية التبئير، حتى وهو يُفسح المجال للآخرين كي يقولوا أنفسهم. تستمدّ الرواية بنيتها ولغتها من طبيعة أحداثها وطبائع أبطالها. تروي واقعًا شبيهًا بالمتاهة حيث يكاد خيط أريان يتحوّل إلى حلم من الأحلام المستحيلة. لذلك تتشعّب الجملة وتنساب وتنكسر وتتوهّج، وكأنّها تتابع مصائر «المرويّين» وهم بين رغبة في التستّر، وحرصٍ على الإفصاح، ولجوء إلى السخرية، ومقاومة بالتهتّك، وعروج إلى الباطن، وسقوطٍ في البيع، وشتات في منافي الداخل والخارج، وتحايل على المحنة، وإحساس بالهزيمة، وإصرار على المُقاومة. في هذه الرواية كما هو شأن نصوص الربيعي عامّةً، حكْي مكتوب، بكلّ ما لدى الحكواتيّين من تقنيات الشدّ. يُسندُهُ رسّام يحذقُ البورتريه، ماهر في الكاريكاتور. يعرف كيف يضرب بريشته اللاذعة كما يضربُ الملاكمُ. يُدير لعبة السرْد مثل قائد أوركسترا، دون أن تُفلت منه خيوط الأحداث والشخصيّات على الرغم من تعدّدها. تدعمُهُ في ذلك ذاكرة عجيبة، تلتقط التفاصيل والمنمنمات وتتلصّص على الكواليس. ذاكرةٌ ذات «أرشيف» لا تفوتُه شاردة ولا واردة. يستخدمها الكاتب بقدر ما تخدم الأدب. وفي طيّات ذلك إنسان من لحم ودم، يعيش ويحلم ويتألّم ويفرح. لا يبتعد عن سيرته ولا يقترب منها إلاّ بحساب. وبعدُ يا عبد الرحمان مجيد الربيعي: ماذا فعلتَ بِي يا صديقي؟ قرابة السبعمائة صفحة قرأتُها كأنّي أقرأ مائة صفحة. أتوقّف لأعودَ كي لا يُفْلت الخيطُ. ساعاتٌ من المتعة المضنية والوجع المُدوِّخ على امتداد أيّام، خرجتُ فيها من العالم لأتوغّل فيه أكثر. وهل الرواية غيرُ ذلك؟ ساعاتٌ من الترحال في لحم العراق وحُلمه، في آلامه وآماله. في قُدرة أبنائه على الحياة حتى بين براثن الموت. في قُدرتهم على الضحك حتى وهم وقوفٌ عند رأس الميت. ساعاتٌ توجّع لها ظهري، عشِيَتْ لها عيناي، وبين الحين والحين أتحسّس ما تبقّى من الصفحات، ممنّيًا النفس بأن لا أراها تقلّ وتقترب من كلمة النهاية. كي أفهم أكثر. كي أقف على الفظاعة أكثر. كي أحسّ بالخزي أكثر. فشُكرًا يا صديقي. بمثل هذه الرواية مغفورةٌ كلّ ساعةٍ تُسْرَقُ من قارئها. ولك ثوابها كلّه. لكن عليّ وحْدِي وزْر انتظار ساعات أخرى، تكتنز بالمتعة نفسها، تنزفُ بالوجعَ نفسه، مع روايتك القادمة.