صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وفاة روائي.. وفاة نصه الموسوعي
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

آخر ما قرأت للروائي عبد الرحمان منيف نصا يؤبّن فيه صديقه، أو زميله، أو رفيقه المفترق عنه والمفارق له، الكاتب المغربي الشهير محمد شكري، وهو نص فيه شيء من الذكريات وشيء من البوح والكثير من النبل الشخصي ومن الرفعة الأخلاقية والنباهة الأدبية والعمق الانساني، وذلك من شيم كبار الكتاب. منيف وشكري كاتبان عربيان مختلفان تماما نصّا وسلوكا ومزاولة للحياة وللأدب، ورغم ذلك فإن منيف حين كتب عن شكري، بعد وفاته، امتدحه أدبا وسلوكا بما فيه من صعلكة وعربدة وخروج عن المألوف الثقافي والاجتماعي، وبذلك كان يمتدح أنموذجا أدبيا نقيضا له، وهذا لا يحصل بسهولة في دنيا الأدب.
بعد أشهر قليلة التحق عبد الرحمان منيف بمحمد شكري، فخسر الأدب العربي الحديث كاتبين فريدين للرصانة والنزق، والخروج النهائي عن المألوف من كليهما. كاتبان مهاجران كل الى وجهته الأدبية دون مهادنة ولا تردد ولا تراجع.
شكري كاتب جارح، شديد الاندفاع، صاحب أحوال وأطوار، يقتات من جسده لتغذية نصوصه النحيلة التي لا تكفّ عن الصراخ وإثارة الجلبة والصخب. نصوص أدبية تكاد تمسك بقبضة يد واحدة من فرط كثافتها وندرتها، وبطريقته الفريدة أحرج شكري اللغة العربية كما لم يحرجها أحد من قبله، وهتك أسرارها وأرغمها على الكف عن الثرثرة والزخارف والتمويه لتقول من خلاله، بوضوح وإيجاز، انسحاق الانسان العربي العادي، الذي قد يكون غير عادي، وانحطاطه الى منزلة أدنى من الدواب، لكي يحرج تواضع الدواب إذا أرغمت على مقارنتها بالانسان...
يقابله منيف بانتاجه الغزير ونفسه الطويل، يتحرك بثبات ورويّة في جغرافية واسعة، برؤية موسوعية وبأسلوب شمولي، وبتخطيط دقيق ومعرفة متراكمة، وقدرة عظيمة على تخييل المكان ومحاصرة الزمان، واكتشاف الجمال من خلال توظيف المعلومة والوثيقة بذوق وفن وحسّ إنساني رفيع، عرف كيف ينقذ به حياة بلدان وشعوب عدّة مناطق عربية في المشرق، ليُسكنها في معمار روايات لا تزول.
في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، حين زار عبد الرحمان منيف مدينة قابس الجنوبية في تونس بمناسبة الملتقى الأول للروائيين العرب هناك، كنت أجريت حوارا معه لفائدة مجلة فلسطين الثورة، وكان وقتها قد أنهى كتابة الرواية الأولى «التيه»، قبل نشرها، في خماسية مدن الملح، أذكر أنني سألته عن قراءاته زمن كتابة رواياته، فأجابني بأنه خلال الكتابة لا يقترب من قراءة روايات الآخرين حتى لا يلتبس عليه الأمر ويحدث في خياله التشويش، وبأن كل قراءاته تنحصر في مجال الوثائق التي لها صلة بعمله الروائي.
لا يمكن بأي حال من الأحوال الانتقاص من المقدرة الابداعية الفائقة لمنيف حين نذكر الجهد التوثيقي الفذ في أعماله الروائية، خصوصا منها خماسيته الرائدة مدن الملح التي تمتد على ما يناهز الألفين وخمسمائة صفحة، بل إنه في ذلك يذكرنا بأعمال الروائيين الكلاسيكيين الكبار، الذين صنعوا مجد الرواية الغربية، وأكثر من ذلك، إن منيف ومن خلال الوثيقة والتقصّي والتنقيب والحفريات في الذاكرة وفي المجتمع والناس، أهدى للرواية العربية متعة المعرفة اضافة الى المتعة الفنية، ومن ثمة فقد نأى بها بعيدا عن استسهال مركبها، وحوّل بها الكسل العربي الراهن، في القراءة والكتابة، الى جهد ومجاهدة وعمل شاق ودؤوب، حصيلته المؤكدة تذوق لذة التعب انتاجا وتقبلا. ومن الثابت عندي أن عبد الرحمان منيف هو علم كبير من أعلام الرواية العربية الحديثة والمعاصرة، ومن المستحيل على كل من له علاقة بهذا الفن في اللغة العربية، قراءة أو نقدا أو ابداعا، أن يتجاوز مزرعة منيف الروائية التي فيها من كل الثمرات، وخصوصا ثماره الناضجة، عجيبة اللون والشكل والحجم والمذاق، التي جادت بها خماسيته العظيمة «مدن الملح».
عبد الرحمان منيف موسوعة روائية دقيقة وشاملة لمدن الملح، وكل العرب مدن للملح، وقرطاج كانت قبلهم جميعا، حين رشّت روما المنتصرة أرضها بالملح لكي لا تنبت قرطاج شيئا بعد ذلك، ولكن مدينة الملح، قرطاج لم تنفك عن الخصوبة برغم الملح.. من الصعب فهم منطقة الخليج العربي وقبائله وشعوبه ودوله وإماراته، وكل ما يتعلق بتاريخه وذاكرته وثقافته وتقاليده وعاداته وذوقه ونفسية أهله وأحلامهم وأوهامهم وخيالهم، ما لم نطلع على مدن الملح لعبد الرحمان منيف، أيضا لا يمكن أن نفهم الانتقال من البداوة المتقشفة والقاحلة الى ضرب من ضروب التمدّن، المباغت والفاحش، ما لم نزر مدن الملح ونصغي الى حكاياتها الغريبة وهي تحدثنا عن العربان والنفط والأمريكان، وكيف أن «مع كل بناء يكتمل يندفع العرب خطوة الى الوراء» حسب عبارة السارد في رواية التيه.
كان تعارف العربان حسب تسمية رواية منيف مع الأمريكان عنيفا ومزلزلا، لا يُبقي ولا يذر، مع أنه يحدث على المستوى المادي والأشياء الملموسة، في المظاهر الخارجية، مثل العمران والسلوك واللغة، لينتقل شيئا فشيئا الى مستوى الذهن والوعي، ببطء وحدّة قاتلتين، رغم أن الأمور في خماسيته مازالت في طورها الأول من هذا التعارف الكاسح والمأساوي.
من لنا بمنيف آخر ليدوّن لنا الطور الثاني من هذا التعارف الدامي الذي بدأ الآن يأخذ مدى أوسع ويتغلغل في الذهن والخيال والروح، وبدأ يتحوّل من مرحلة الاحتقار أو الانبهار الماديين الى مرحلة الإصرار أو الاندثار الروحيين، بالمعنى الحضاري...
ما حدث وما يحدث لهو شيء مرعب، وهنا فإن الرواية تتدخل، رواية منيف، لتجعل من الرعب أمرا قابلا لأن يعاش ولأن يروى، فقط من أجل التفوّق على الرعب، لأنه في اللحظة التي يعاش فيها الرعب ويروى يفقد خطورته وفاعليته ورعبه، يكون تحت سيطرة اللغة وقابلا للمساءلة والامتحان، أي قابلا هو الآخر لأن يرتعد وترتجف أوصاله، فيكف على أن يكون رعبا. ومن الايجابية الوجودية منح منيف البطولة والوجاهة الأدبية والمعنوية، خليجيا ونفطيا، بما أنه دوّن لاكتشاف النفط على الأقل، ومن ثمة عربيا وكونيا أيضا، حتى تستعيد تلك المنطقة الحيوية بطولتها وأدبها وفاعليتها، من التبصّر والحكمة القول أنه ليس ثمة من خيار آخر تقريبا، فمنيف هو يد رمزية وجمالية لنا وليس يدا علينا، مهما كانت المفارقات والمقاربات والتحاليل والقراءات ووجهات النظر...
أعمال عبد الرحمان منيف لا بد أن تقرأ وأن تعاد قراءتها في العالم العربي كله وخصوصا في الخليج. إنها تعويذة كبرى ضدّ ما حصل ويحصل من محاولات إبادة شاملة، ليس لإنسان من إنسانية هذا الزمن فقط، بل الأخطر لثقافته وذاكرته وفطرته وذكائه وتجربته ولأثمن ما يدلّ عليه.
لا يهمني كثيرا عبد الرحمان منيف الخليجي ولا السعودي ولا العراقي ولا السوري ولا الأردني ولا العروبي، ولا التونسي إن شئنا، لا يهمني كثيرا مساره السياسي ولا ايديولوجيته ولا تقلبه في الزمان والمكان، كل ذلك مغفور للمبدعين وذلك حياة من حياة ديمومتهم، رغم أنني أجد نفسي في حرج مع رواياته ذات التوجه السياسي، مثل شرق المتوسط في صياغتها الأولى وفي صياغتها الثانية.. النظام العربي كأي نظام في الدنيا، يحارب ويقمع كل من يرغب أو يريد افتكاك السلطة منه. والمعارضة العربية كلها كانت عنيفة ودموية وانقلابية مثلها مثل أنظمتها. مفهوم الديمقراطية والتداول السلمي على السلطةهو مفهوم جديد تماما على العقلية العربية. لذلك فإن الانتصار للأنظمة، مطلق الأنظمة، مطلق الأنساق السائدة أو التي تسعى أو تحلم بالسيادة، من قبل روائي سيّد بطموحه الأدبي ومشروعه الابداعي الواعد، أو الانتصار لخصوم تلك الأنظمة، هو نفس الشيء، وجهان لعملة واحدة، ودغدغة لمشاعر العامة والجماهير وتسفيه لها، في ذات الاتجاه، سواء أكان جيئة أو ذهابا، فلقد كان زمن الحرب الباردة بين المعسكرين له طائرات وقطارات تقتطع تذاكر مجانية لمثل هذا الصنف من الكتابة الوظيفية التي يتهددها التقاعد، أو الإحالة على المعاش، في كل لحظة.. أكره الكتابات التي هي مع الأنظمة وأكره أكثر تلك التي ضدّها، فكلها رهينة اللحظة بوجهيها. وتظل الكتابة بما هي وشم ومكتوب، بالمعنى اللغوي والغيبي، البوصلة والوجهة، وأتصور أن عبد الرحمان منيف له نصيب كبير، فيما كتبه، من هذا المعنى، إذا قرأنا المعنى قراءة مناسبة، وتلك مسألة يطول شرحها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.