٭ حاورته: رشأ التونسي يشغل برهان غليون حاليّاً منصب مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وهو أستاذ علم الاجتماعي السياسي في جامعة السوربون الجديدة في باريس. وضع العديد من الكتب المرجعية في السياسة والمجتمع، بالاضافة الى مئات المقالات العلمية في مختلف المجلات والصحافة العربية والدولية. من آخر مؤلفاته : النخبة والشعب، العرب وتحولات العالم، حرب الخليج أو عصر المواجهات الكبرى، النظام السياسي في الاسلام. وهو بالاضافة الى ذلك من أبرز المساهمين في المناقشة العامة حول مستقبل الديمقراطية ومصير المجتمعات العربية، عرفته طفلة في دمشق صديقاً لأخي تميم ضمن مجموعة اتسمت بالثقافة والنضال والمواقف التي افتقدناها، كانت المجموعة تضم عز الدين قلق وغسان كنفاني وفايز ملص ونبيل المالح وخلدون المالح وزكريا ثامر وبرهان غليون.. وغيرهم، ثم تعرفت عليه جيداً في مؤتمر لوتس مع زياد عبد الفتاح وانطلقت صداقتنا، ألتقي به كلما زرت باريس مقيماً في الحي الصيني حيث يناديه الجميع دكتور برهان. ٭ ماذا تعني العلمانية اليوم؟ العلمانية تعني ببساطة النظر الى الدولة كمؤسسة جامعة لا تميز بين مواطنيها حسب الاعتقادات، ولكنها لا تعادي أي عقيدة دينية أو لا دينية أيضاً. وقد عبر عنها آباء الاستقلال في جميع البلاد العربية بعبارة شهيرة لا تزال صالحة حتى اليوم هي: الدين لله والوطن للجميع.. ٭ لماذا خسرت العلمانية مكانتها في الصراع الايديولوجي في الوطن العربي ؟ لأن من ربطوا أنفسهم بها، وادعوا دفاعهم عنها، اتخذوا منها أساساً لتمييز أنفسهم عن باقي فئات المجتمع، وحولوها الى هوية وعقيدة خاصة بديلة، وطالبوا بفرضها كعقيدة دولة بدل العقيدة الدينية. العلمانية التي لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول الى أداة لتسويق عقيدة سائدة، العلمانية لا تشكل عقيدة بحد ذاتها، ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعاً بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية. ٭ طالب محمد عابد الجابري بسحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي والاستعاضة عنها بشعاري العقلانية والديمقراطية ؟ لست مع عابد الجابري في انكار أهمية مفهوم العلمانية واستبداله بمفهوم الديمقراطية، أعتقد أن الديمقراطية تستدعي حتما العلمانية، أي حياد الدولة تجاه الأديان جميعاً حتى تضمن المساواة بين مواطنيها كافة، بصرف النظر عن اعتقاداتهم الفكرية والمذهبية، بينما لا تستدعي العلمانية الديمقراطية ولا تتضمنها بالضرورة. ٭ ما هو أساس مصطلح العولمة؟ المضمون الرئيسي للعولمة كما نعرفها اليوم هو أنّ المجتمعات البشرية التي كانت تعيش كل واحدة في تاريخيتها الخاصة، وحسب تراثها الخاص ووتيرة تطورها ونموها المستقلة نسبيّا، على الرغم من ارتباطها بالتاريخ العالمي، قد أصبحت تعيش في تاريخية واحدة وليس في تاريخ واحد. فهي تشارك في نمط انتاج واحد يتحقق على مستوى الكرة الأرضية، وهي تتلقّى التأثيرات المادية والمعنوية ذاتها وتعريف العولمة المعروف هوعملية ازدياد وسائل التفاعل بين الأمم وتحوّلها من نشاط جانبي الى نشاط يدفع تطوّر النظام الانتاجي للعالم بأكمله. ٭ لكن هل يمكن دمج العالم في منظومة واحدة؟ محاولات دمج العالم في منظومة واحدة هي قديمة قدم الامبراطوريات والاستعمار، ولكن الفرق بين منظومات الدمج القديمة وتلك التي تتم في ظل العولمة، هو أنّ المنظومات القديمة كانت تؤدّي الى قيام أنظمة متشابهة في الدول والمجتمعات المستقلة نسبيا، أما في ظل العولمة الحديثة، فتدخل الدول والمجتمعات المختلفة في اطار منظومة اقتصادية اجتماعية ثقافية واحدة والفرق الآخر بين العولمة الحديثة ومنظومات الدمج القديمة هو أكثر اشكالية فمنظومات الدمج القديمة كانت تقوم في كل مرحلة تاريخية على مركز عالمي فاعل مقابل محيط وأطراف، أما العولمة الحديثة، فانها تعني شيئا آخر يتجاوز هذه العلاقة بين المركز والمحيط، انها تتجسّد في نشوء شبكات اتصال عالمية فعلا تربط جميع الاقتصاديات والبلدان والمجتمعات وتخضعها لحركة واحدة. ٭ هل يعني ذلك أنّ العولمة الحديثة تتجاوز العلاقة غير المتكافئة بين المركز الفاعل والمحيط المفعول به؟ هناك علاقة غير متكافئة، لكن يجب أن لا نتجاهل الجوانب الايجابية للعولمة والاحتمالات الكبيرة التي تنطوي عليها لتحقيق التقدّم والخير والسعادة للبشرية ككل. بيد أنّ ما يجب التأكيد عليه في هذا السياق هو أنّ العولمة الحديثة، ان كانت تختلف عن أنظمة السيطرة العالمية القديمة، فانّ هذا الاختلاف ليس في أنها تتجاوز هذه العلاقة بين المركز والمحيط، بل على العكس، العولمة الحديثة تتميّز بتزايد الاستقطاب على مستوى عالمي، وبالجهود المحمومة لاخضاع المحيط للمركز. ٭ العولمة: ديناميكية موضوعية أم ذاتية؟ العولمة، هي ثمرة التقاء التطور الموضوعي لحقل التقنية والعلوم الذي يحدث، بغض النظر عن رأي أي واحد منا، وارادة المجتمعات أو الجماعات والنخب التي تسيطر على هذا التطور الموضوعي وتوظّفه لضمان سيطرتها أو تحسين مواقعها. فلا نستطيع أن نتصور العولمة من دون ثورة الاتصالات والتطورات التقنية المذهلة التي تكمن وراءها. ولا نستطيع أن نفهم نتائجها كما نشاهدها اليوم من دون فهم السياسات الليبرالية أو النيوليبرالية التي توجهها، أي من دون أخذ طبيعة القوى الاجتماعية السائدة في الاعتبار وفهم مصالحها ومتطلبات استقرارها.. انّ المجتمعات التي تتساءل ما إذا كانت العولمة شيئا يجب مقاومته أو الاندراج فيه، هي مجتمعات تعيش على هامش الحياة والاقتصاد والمنافسة الدولية، تقنيات المعلوماتية والاتصالات هي التي تسمح بالاندماج العالمي، ومجرّد طرح مسألة كيفية التعامل مع العولمة، وما اذا كان يجب مقاومتها أو مجاراتها، يدل على هامشية العالم العربي في ظل نظام العولمة الجديد. لا بد من الانخراط في العولمة من أجل الاستفادة من امكاناتها التقنية، ومن أجل أن نكون ضمن لا خارج المجتمعات التاريخية. ٭ ذكرتم في بعض كتاباتكم أن تاريخنا العربي يشكل ثقلا لا يمكن التحرر منه الا في حالات الثورات الحماسية الكبرى التي تفجر الوعي الماضي، وتنشئ وعيا جديدا بالفعل. فلماذا علاقتنا بتاريخنا تبدو متأزمة الى هذا الحد؟ ولماذا هذه الرغبة في تأسيس «القطيعة» مع الماضي؟ ليس تاريخنا هو الذي يشكل ثقلا كبيرا علينا وانما أي تاريخ. التاريخ بحد ذاته عطالة أو عامل عطالة، أي تثبيت واستمرار وضمانة لاعادة انتاج النظم والأوضاع كما كانت. لذلك يحتاج التجديد في النظم والأفكار وأساليب العمل والانتاج الى قطيعة، أي الى ابتعاد وانفصال، لهذا الحد أو ذاك، عن النماذج والقيم والأفكار وأساليب العمل الموروثة والشائعة والمتبعة، والا لن يكون هناك أي جديد. والتجرؤ على القطيعة مع الماضي تحتاج الى قوة معنوية وأخلاقية ونفسية كبيرة، ومقدرة على مواجهة المخاطر وتحمل المسؤوليات، ومواجهة روح المحافظة الطبيعية وعدوان المحافظين. ولا تتحقق هذه الامكانية على مستوى الجماعات الا في فترات حماس استثنائية، كما يبرز ذلك تاريخ النبوة وتاريخ الفتوح المدهشة التي قادها رجال لم يخرجوا من صحرائهم أو من مدنهم الصحراوية، فصاروا فاتحين متميزين وملوكا معظمين. القطيعة لا تحصل مع التاريخ ولا ضده وانما تحصل داخل التاريخ، وتبقى لذلك محتفظة بعناصر أساسية فيه. ففكر الاسلام شكل قطيعة مع فكر الجاهلية، لكنه استخدم الشعوب نفسها والشخصيات نفسها وأماكن العبادة نفسها وأعاد تأويلها وتفسيرها وتحميلها بالمعاني والقيم والأفكار والدعوات الجديدة. وفكر النهضة العربية الحديثة مثل قطيعة مع الفكر العربي والاسلامي السائد في القرن التاسع عشر، لكنه لم يقطع مع التاريخ العربي وانما استعاده في صيغة أخرى. فاكتشف مفكرين وفلاسفة وأدباء كانوا قد نسوا، وفي مقدمهم ابن خلدون الذي كرس رائدا لعلم الاجتماع العالمي، وابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين الذين عرفوا بمنزعهم العقلي، بالاضافة الى كتاب ألف ليلة وليلة الذي لن يمل العالم الحديث من ترجمته والتأمل فيه. القطيعة داخل التاريخ لا تعني القطيعة مع التراث ولا مع الماضي، فالماضي يبقى، لكنه يتحول الى تاريخ ماض نهائيا، أو يدخل في بناء التاريخ الحديث. وقديماً قيل من لا قديم له ليس له جديد، والعكس صحيح. ٭ إلى أي مدى يمكن الحديث عن دور العرب الريادي في ظل غياب مقومات الدولة الحديثة التي تعتبر أول خطوة للشراكة بين المحلي والعالمي؟ التفكير في بناء الدولة الحديثة جزء أساسي من المستقبل. والتفكير في المستقبل يعني تحليل الهياكل والبنى المحلية حتى تستجيب التحديات القائمة، فالمؤسسات العربية الرسمية اليوم تعاني عطلاً على مستوى الادارات وصنع القرار السياسي، وأصحاب السلطة يسيطرون على مفاصل الدولة التي أصبحت بدورها مركزاً للقهر والقمع. والمطلوب اعادة هيكلة هذه المؤسسات وتحديثها، مؤسسات الاقتصاد الوطني تراجعت لمصلحة القطاع الخاص، وهذا المؤشر خطير، وخصوصاً أن الدول العربية لم تمر بمرحلة دولة الرعاية. وسواء كنا من الاشتراكيين أو غير ذلك، فان القطاع الخاص اليوم يأخذ مكان الدولة في الاقتصاد والصحة والتربية والتعليم، ما يدل على فشل تجربة الدولة الحديثة في العالم العربي، الذي تسيطر عليه أنماط من القبلية والعشائرية عطلت قيام الدولة. وحين نتحدث عن دور العرب الريادي وقدرتهم على المشاركة في المستقبل، فلا شك أن غياب مقومات الدولة يساهم في شكل أساسي في تعطيل هذا الدور. ويبقى أن مستوى الابداع ينطبق على الأفراد وليس على قدرة العرب على صنع القرار، وخصوصاً أن المجتمعات العربية مفككة، وعندما نتخطى المعوقات التي تعرقل مسيرة الاصلاح يصبح لنا دور فاعل اقليمياً وعالمياً. ٭ ماذا تقصد بمصطلح «عروبة المستقبل»؟ عروبة المستقبل تعني أنه لا ينبغي علينا أن ننظر الى مسألة العروبة، من حيث هي هوية أو دعوة الى الوحدة القومية، من منظار الماضي والتراث، وما تركه لنا الأجداد من وشائج قربى ناجزة، وانما من منظار المستقبل،، هوية عربية ووحدة سياسية جامعة من أدوات ووسائل وأطر تفيدنا في مواجهة تحديات الحاضر المفتوح وضمان اندراجنا في التاريخ. فهي صحيحة بمقدار ما تساعدنا على العبور نحو المستقبل، وتحقيق حداثتنا المنتظرة، لا بدلالتها على الماضي ولا بما يمكنها أن تقدمه لنا للاحتفاظ بهذا الماضي أو استمرار الوفاء له أو الانتماء اليه. بهذا المعنى لا ينبغي أن ننظر الى الدعوة العربية على أنها تكريسا لقرابة قائمة، ولا ينبغي أن تكون كذلك. ولا يشكل الاشتراك في التراث مبررا كافيا لتبني أي هوية أو وحدة سياسة. بل قد تكون القرابة، من دون مشروع للمستقبل، غير ذات قيمة ولا فائدة، وأحيانا مصدرا للمنازعات الدائمة على الزعامة والمواقع التمثيلية، كما يدل على ذلك واقعنا العربي اليوم.