لا وقت للحب لا وقت للشّعر ... هكذا قد يردّد البعض في هذه الأوقات – أكتب هذه الكلمات و أنا أسمع لعلعة الرصاص في الليل التونسي الطويل الذي يحلم البعض أن يكون أبديا – لكن الحب و هو الشعر ذاته , أو لنقل ذلك هو الحب و قرينه ... الشّعر : قدرة الإنسان على مقاومة الظلمة و الوحشة و الظلم و القهر و الصمت , ها نحن التونسيون في اللحظة الفارقة ما بين الموت و ما بين الوجود , ما بين العمى وما بين البصيرة , ما بين الحقد القاتل و ما بين الحب الرحيم , ما بين ظلمة طاغية هددنا بالفحولة الكاذبة و الرّصيد الهائل من الخيانة و الجبن و ما بين البصيص الشّفيف للغد المشرق الذي نتنفس فيه الحريّة , ما بين الإرهاب المقنع في المعنى و في المجاز و بين الاقتراب من الخروج من المآزق المظلمة ...أجل آن الأوان للحب و لصنوه الشعر. أجل , آن الأوان لننظر في وجوهنا في المرايا بلا خجل , و نعيد احتساب شجرة القرابة , و نفخر بأننا التونسيون القادرون على الرّفض و القادرين على الحياة , و القادرين منذ الفينيق على الانبعاث من الرماد ... أجل هذا زمن الحب و قرينه الشعر نتسلح في هذا الليل البهيم من البهامة و البهموت الخرافي في «المقدمة» , و من فحيح السّحنات الصّفراء و اللّحى الشّعثاء المطلة علينا في الشّاشات , و من عويل النادبات المحترفات في قنوات النفط بثلاثة أبيات من الشعر : بيت للشّابي الذي سرق النار من جبل الأولمب و أعطاها للتونسيين مبكرا ليستأنسوا بها من الظلمة و الوحشة حتى تعلق جذوتها و تصهر فوقها أولى أسلحة الإرادة ضد الطغيان الأجنبي ... فتحولت إلى شعلة في قلوب الناس إلى اليوم إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر و بيت لمنور صمادح الذي حول تلك الشعلة البروميثية إلى بيان فصيح و لسان لجوج لاذع هو مطلب التونسيين الدائم أو ثورته الدائمة على الصمت و الخرس و تكميم الأفواه , و هو لسان الصياغة في القول و العمل و بلاغة الإيجاز في التعبير و الإصداح بالحقيقة مهما كانت مرارتها , كأن يخاطبك صمادح أو يصيح بك و هو في قمة الجنون الحكيم :» يا أيها التونسي الشريف و العنيد ... أنت إنسان لدى الناس رسول الكلمات فتكلم و تألم و لتمت في الكلمات و بيت لأولاد أحمد محمد الصّغير , ذلك الذي تحوّلت قصيدته إلى نشيد هرّبه الشّاعر من داوئر الخوف إلى تغريبة شعب كامل يستأنس الخوف و يدجنه في صلاة الفجر بلا وضوء إلا من ماء المحبة للبلاد و في قيام الليل بلا تيمم إلا بأديم هذه الأرض العصية عن غزو الغريب و الحبيب ... و البيت النشيد مضاربة في حب البلد إلى درجة الخروج منه للعودة إليه غازيا ... يا هذا البلد كم تضيق بك الرؤية لتتلقفك هذه العبارة : نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد صباحا مساء و قبل الصباح و بعد المساء و يوم الأحد أجل , أجل ...ثمة وقت كاف للحب و للشعر ... ثمّة وقت لجمع ما تناثر من الياسمين الشتائي على الأرصفة , و ثمة ما يجعل التونسيين غدا يعيدون الحياة للبلد بلا خوف و لا مذلة , و ثمّة مواعيد في الانتظار : طبشور في محفظة الصغير يحلم بالفراشة تخرج من كتاب القراءة , و ثمة عجين ينتظر الفرن , و ثمة جدار يحتاج لبنة أخيرة ليقام , و حليب طازج للرضيع , و ثمة بذور تحلم بنور الشمس , و أحضان أمهات تحن لمعانقة أطفالها النزقين بالشيب المباغت , و ثمة موعد أكيد بين فتى و فتاة خجولة ربما أمام المسرح البلدي ... ثمة رائحة ياسمين بديلا عن عطور الموتى ... زادنا ثلاث أبيات من الشعر في هذا الليل البهيم . تحية للصديق الأستاذ عبد الناصر العويني الذي صاح في الناس في قلب الشارع الرئيسي « يا توانسة يزيكم من الخوف»