اتسمت اختيارات السياسات في الشأن الفلاحي في ال 20 أو ال30 سنة الماضية بعدم استشارة أهل الذكر قبل وضع سياسة فلاحية قابلة للتبني والتقييم تستهدف وتتفاعل مع حاجيات البلد والقطاع، فاختلطت السبل وكثرت الاختيارات العشوائية وراحت في متاهات ما انزل الله بها من سلطان، وكأن الهدف الأول لم يصبح الانتاج ولا الفلاح كعموديها الفقريين في كل مراحلها، فأضحت المخططات شيئا فشيئا عبارة عن قوائم لأهداف من المنتوجات ، بدون نمط انمائي معين ،وأحيانا حتى بدون احتساب تمويل يمكن من بلوغها ، معتبرة أن الاستثمار فيها هو من شأن الخواص، متجاهلة«شبه الفقر» الذي وصل اليه حتى ما يسمى بكبار الفلاحين أمام تغيرات مناخنا وتشتت الأرض. فشاهدنا هكذا مثلا ما فرض من توريد نوع واحد من الأبقار المحسنة لكنها باهظة الثمن وتفرض على البلاد تبعية أبدية من توريد دائم للأعلاف...بينما كان أولى إعطاء أولوية فعلية للفلاحة الوطنية، وكذلك برزت ال«مشاريع رئاسية» الديماغوجية للقيام ببعض أشغال للمحافظة على التربة أو لبعث مناطق سقوية ذات الجدوى غير المؤكدة وحتى في غياب مرشد ميداني أحيل للتقاعد دون تعويض. وتراكمت ديون الفلاح وأصبح غير قادر على ارجاع القروض ولا حتى ثمن ماء الري... كما شاهدت هذه الفترة مبدأ«ضرورة تحميل المهنة بعض أدوار الدولة» وبعثت3«غرف فلاحية»...لكن الإدارة والمنظمة الموجودة لم يهضما تواجد مهنة مستقلة...وأغلقت الغرف وكذلك الشأن في 2008 ببعث معهد حكومي للزراعات الكبرى وحل المركز الفني للحبوب ذو الطابع المهني...أما بالنسبة الى ما آلت اليه الأراضي الدولية فبعدما انتهى بها المطاف الى ما سمي بشركات الإحياء الفلاحية وتعهدت باستثمار وتشغيل كبيرين لتحسين الانتاج وامتصاص لليد العاملة ولخريجي التعليم العالي...وأبرزت الدراسات ضعف التأطير وتواضع الانتاج. والآن ونحن على باب عهد جديد، وهؤلاء حقوقيون وصحفيون وأحزاب... سوف تتسابق على تقديم الرؤى والرسوم المختلفة للمستقبل فهل منهم من فكر في الفلاحة وفي التموقع الذي خصصوه للفلاح وللمهندس الفلاحي وللفلاحة ممن واجبهم أن يعولوا المجموعة، فلا يجوز لهم إذن أن يرضوا الى الأبد ب«موقع المتاكلة والمذمومة»...وقد آن الأوان لطرح مشاكلهم على المجموعة وإبداء ما لهم من مقترحات وأراء في مستقبل القطاع وطرق تنميته وتموقعه في المشهد السياسي الجديد وهم الطرف الذي لا يستهان به ومن أهل الذكر فيه لا في الانتاج فقط، بل وكذلك في التشغيل والتصنيع والصيد والتعليم والتكوين والتصدير والتخفيض في التوريد وفي تطوير السياحة... وحتى يفهم الجميع تركيبة هذا القطاع وحساسيته ، فهو يتكون من 516.000 مستغلة سنة 2004 بعدما كانت 471.000 في سنة 1994 وربما بلغت اليوم ال 550.000 لا يتجاوز تعليم 83 ٪ من فلاحيه المستوى الابتدائي، ويفوق عمر 43 ٪ منهم ال 60 عاما، بينما لا تفوق مساحة 54 ٪ من المستغلات ال 5 هكتارات على 11 ٪ من المساحات الزراعية، وان كان معنى ذلك أن شريحة الفلاحين وأسرهم يقترب من ال 3.000.000 «صوت» في الانتخابات وهذه الأرقام تدل على: (1) أن عدد المستغلات مهول بينما أحجامها لا تكاد تؤمن العيش الكريم (2) أن تزايد العدد بين 1994 و 2004 واليوم يمثل تزايد شريحة الفقراء وازدياد النزوح البشري وتهميش دور الفلاحة. (3) غياب عمل وتشريع جدي من شأنه أن يجعل من هذه المستغلات مستغلات قابلة أن توفر الحياة الكريمة للفلاح والأمن الغذائي للبلد (4) عجز الوكالة العقارية على معالجة الأوضاع العقارية وسوء تشريعاتها، ويبقى المشكل الأعظم وهو غياب تنظيم للمهنة يساعدها على استقلاليتها لتأمين الغذاء للبلد والدخل المحترم للفلاح، وقد كان غلق الغرف الفلاحية التي بعثت في 1988 غلطا فادحا. وحتى لا أرمى بأني أدعو من وراء هذا الى تشجيع على المساومة بهذه الأصوات، فإني أنبه فقط الى ضرورة العناية بهذه الشريحة من المواطنين الصامدين في أريافنا والتفكير مليّا في برامج اقتصادية وفلاحية مستديمة تنهض بهم وتحدّ من النزوح ومخاطره واحتساب ربح عادل للفلاح وتموقع منصف للقطاع الفلاحي... هذا، والأحزاب والمجموعات بصدد اعداد سياساتها، فعلى كل حزب أن يضع في الميزان قبل أن يقول «أنا أرشح فلانا للرئاسة أو لمجلس الشعب» أن يقدم ما في حقيبته(وهم ال14 أو 16 حزبا) من حلول وطرق سيتوخونها مع الفلاح والمهندس وفي تعمير الأراضي الدولية واستشارة أهل الذكر فيه. وختاما، ومن خلال تجربتي هذه كأحد شيوخ المهندسين، آمل أن ينجم عن هذه المساهمة، عمل وحوار واسعين، بالتوازي بين الفلاحين ولا يزال من بينهم شرفاء ونخب كثيرة وبين المهندسين بأطيافهم المختلفة وكل العارفين بعلوم الزراعة وبواقع الريف وضرورة تشبيبه بعقلنة..