كنت قد نشرت على هذه الصفحات في 29 جانفي الماضي مقالا حول «ما هو تموقع الفلاحة في مشاريع الأحزاب» بالاعتماد على ما كنت أعرفه كمدير عام سابق للانتاج النباتي، قصد لفت للانتباه مباشرة بعيد الثورة، لضرورة التفكير في القطاعات الاقتصادية وخاصة منها القطاع الفلاحي ومناقشة وضبط برامج فعالة، على أن ضعف متابعة الأحزاب الميدانية لأسباب الثورة ولما يقدم من حلول وأفكار وعدم استشارة أهل الذكر... جعلها تتناسى هذه الدعوة للالتفات لهذه المواضيع الجوهرية... مما أدى بنا الى وصول للانتخابات دون طرح المشاكل الموضوعية والحقيقية واقتراح ما تستوجبه من حلول. فكان الحديث هكذا حول الاختيارات العشوائية في الشأن الفلاحي السائدة في ال20 أو 30 سنة الماضية وعدم تفاعلها مع حاجيات البلد ولا القطاع، فاختلطت السبل وتاهت الحكومة في متاهات ما أنزل الله بها من سلطان. فأضحت المخططات شيئا فشيئا عبارة عن قائمات لأهداف وهمية تفتقر لنمط انمائي معين، وبدون احتساب تمويل يمكن من بلوغها، اضافة لتجاهل الفقر و«شبه الفقر» الذي وصل اليه حتى ما يسمى بكبار الفلاحين أمام تغيرات مناخنا وتشتت الأرض وتدني الدخل ومغادرة الفلاح والعامل لأرضه... كما قدم المقال أمثالا لهذه الأغلاط من توريد لأبقار باهظة الثمن وما تفرضه على البلاد من تبعية في توريد للأعلاف، وبروز ظاهرة «المشاريع الرئاسية» الديماغوجية للقيام ببعض أشغال للمحافظة على التربة أو لبعث مناطق سقوية ذات الجدوى غير المؤكدة أو بعث غرف فلاحية ثم الاسراع بغلقها وترك جانبا ما كان يرجى من ورائها من تدعيم للمسار التنموي الريفي... على أن الدعوة الى نقاش هذه المواضيع وتقديم الرؤى والحلول المستقبلية لم تحظ باهتمام الاحزاب ولا الفلاحين ولا مهندسي الفلاحة فلم تطرح مشاكلهم وهم الطرف الذي لا يستهان به في التشغيل والتصنيع والتعليم والتصدير وفي كل ما يهم تنمية وتطوير الريف عموما... وفي الخلاصة لم يهتم أحد بال550.000 فلاح المنبثة في ريفنا ولا بعدد الأصوات الذي يمثلونه... أما الآن فالوضع تغير والحمد لله، واذا تركنا جانبا ما تلوكه بعض الأفكار الضعيفة مما كان يكرر في العهد السابق من «بلوغ الاكتفاء الذاتي في الحبوب»، فلا بد من أن يدرك الجميع ضرورة تبني ما يتطلبه الوضع الراهن من مراجعة جذرية لركائز وأهداف التنمية، فالآن يجب وضع منوال مستديم للتنمية الفلاحية المستقبلية يتماشى مع أهداف الثورة من استقطاب لشباب الريف وتنمية فلاحته وفلاحيه. والآن، ونحن في بداية موسم جديد، لم تتواجد بعد فيه رؤيا واضحة ولا تعديل جاد لمنهجية العمل تختلف مع ماكانت عليه اختيارات البرامج الرئاسية العشوائية التي لم تع مقتضيات وحاجيات الريف والتي لم يكن يرجى منه أي جدوى... أرى من الواجب دعوة جميع الأطراف، من جديد، الى التجند كليا لهذه المواضيع والاستجابة لما يطلبه الشباب الفلاحي من عناية وما يتطلبه الريف من تنمية فلاحية، خاصة ونحن على أبواب تكوين حكومة جديدة، وأنه ما من بد من لفت انتباهها لأمور عاجلة يفترض أن تجابهها في القريب، ونذكر في مقدمتها: ضرورة اعداد وثيقة منهجية تضع للادارة المركزية والجهوية ولمختلف التنظيمات... سبل التعامل مستقبلا مع التنمية الفلاحية والفلاحين والبحارة والشباب... في هذه السنة الانتقالية لتخفيف ما تحمله جميعهم من وطأة النظام السابق وما ترك وراءه من مخلفات...، في انتظار تفكير وتنظيم أشمل، يساهم فيه كل المعنيين بالقطاع، لوضع سياسة فلاحية للسنوات القادمة. ضرورة اعداد ميزانية 2012 على المستوى المركزي والجهوي والمصالح التابعة لوزارة الفلاحة، وفي هذا الشأن لابد من ضبط منوال مخالف للرؤيا السابقة حيث كان كل التركيز على مجموعة تدخلات متقطعة ليس لها علاقة مباشرة باهتمامات الفلاح ولا يربط بينها قاسم مشترك من شأنه ايصال نشاط الوزارة الى نتائج اقتصادية مقنعة ولا نتائج مالية تخرج المزارع من فقره المدقع...، بينما يفترض الآن التركيز على الاستجابة السريعة لمتطلبات السوق التونسية والليبية ومراجعة النظرة في تربية المواشي والتخفيف من ارتباطها الشديد بتوريد الأعلاف ومراجعة النظرة للمناطق السقوية لاقحامها فعليا في دورة الانتاج... مع اعطاء عنصر تشغيل الشباب المتعلم وغير المتعلم ما يستحقه من قدر في الادارة وفي المنظومات المختلفة... والشروع الفعلي في حل المشاكل العالقة والمتراكمة منذ سنوات طويلة... اعادة النظر في ما آلت اليه السياسة السابقة للقروض الفلاحية وما انجر عنها من مشاكل تداين الفلاحين المفرط واتخاذ السبل الملائمة لتغيير المسار والذي تمت في شأنها دراسات عديدة، كما أن النظرة المتبعة بالنسبة للاستثمار، والمقتبسة أساسا من القطاع الصناعي أو من تجارب دول أخرى، لا تتلاءم مع الفلاحة ولا مع اختلافات طبيعة مناطقنا الريفية، والأخذ بعين الاعتبار مثل هذه الأساسيات وتجديد النظرة مع ما يقتضيه الحال ضرورة لابد من اختيار الحلول الملائمة لها. تحيين برامج تمويل المناطق السقوية وتعويض «الهرولة» الحالية لتجهيز مناطق جديدة، بالنظر في المستلزمات البشرية والمالية الكفيلة بالتسريع في نسق احياء المناطق المجهز الفعلي لضمان منتوج أدنى لهذه السنة وتمكين الفلاح من دخل يكفيه لتغطية حاجياته والتمادي في الاستثمار في مستغلته وبعث امكانيات تشغيل اضافية لتنمية منطقته. الشروع في احصاء جديد للمستغلات الفلاحية وتقييم أوضاعها وضرورات تجهيزها حتى نقترب أكثر من واقع الفلاحة والصيد البحري والتدقيق في امكانيات تكثيف الانتاج والتنمية والتشغيل فيها. تكوين لجنة لمراجعة وضع ومحتوى البحث والتعليم الفلاحي اللذين بلغا مستوى تدهور يقتضي مراجعة كلية لملاءمتهما مع التطور المذهل الذي نشاهده في العالم خاصة في ميادين الانتاج الفلاحي وتربية الماشية والصيد البحري والاستغلال الغابي... وكل هذه الميادين تشكو من النقائص العديدة وتنطوي على امكانات جمة للتنمية والتشغيل وتحسين الدورة الاقتصادية جهويا ووطنيا... وأخيرا القيام بدراسة في شكل مسح شامل لمختلف قطاعات الفلاحة واقتراح مشاريع متوسطة وطويلة المدى لتنمية مختلف الجهات والفلاحات واقحام الشباب في تنفيذها والاستفادة منها، وقد كان البنك الدولي يساهم في تمويل مثل هذه الدراسات. هذا والفرصة سانحة ومؤكدة لكل الأحزاب للقيام بالدراسات المعمقة في مختلف مشاكل وميادين الفلاحة واعداد ما يرونه صالحا من برامج مستقبلية تمكنهم من القيام بحملاتهم الانتخابية المستقبلية... وان يتذكروا جيدا ما كان ولا يزال الفلاح يردده أمام كل السلط التي تمر به «أنتم في واد ونحن في واد» شعورا منه أنه مهمش المجتمع الدائم. وختاما، آمل أن ينجم عن هذه المساهمة البسيطة، عمل جدي وحوار واسعين، بين الفلاحين والمهندسين بأطيافهم المختلفة وكل العارفين بعلوم الزراعة وبواقع الريف وضرورة تشبيبه في كل الأحوال، ويرجع طبعا للحكومة القادمة الى جانب أهل المهنة ان كتب لها أن تبرز دور تنسيق هذا الحوار وتسريع اتخاذ القرار الصائب فيه. والله المستعان مالك بن صالح مهندس زراعي Email: [email protected]