إن محمد البوعزيزي ذلك الشاب المتعلم والمتقد حيوية لم يكن يقصد وضع حد لحياته البائسة لما أشعل النار في جسده بل كان في الحقيقة يعلن عن وجوده كإنسان يطمح الى حياة كريمة وحرة لأن سكوته الذي طال أمده أمام إدارة جهوية مرتشية وصماء غير منصتة له بل لا تعيره أي قيمة وتزيده إذلالا وتحقيرا جعلته يعلن عن وجوده وبداية التاريخ لبطولات جحافل من الشباب المتوقد نارا وحياة وملاحم للرفض والصمود وثورة جديدة ذات خصوصية تونسية لم يشهد التاريخ مثلها في عفويتها وسلميتها فبلهيب جسمه المشتعل الذي بات قوة مبهرة ومتحدية أكد شهيد تونس انسانيته التي استهدفت وشوهت من قبل قوة الاستعباد والغطرسة التي مثلتها السلطة والمؤسسات الجهوية ودكاكين الادارة المقيتة ولم يفته بأنه حتى الحيوانات التي تنطق أو تكتب «تهز ذيلها غضبا واحتجاجا». ففي القاموس السياسي وأبجديات التمرد فإن محمد البوعزيزي لم ينتحر في الأصل بل أعلن وبقوة رهيبة ومحرقة وجوده ووجود آلاف من أمثاله وطوى في لحظة حاسمة النسيان الذي لفوه فيه الى حدّ العدم وبداية نهاية الطغاة الذين كبلوا طاقاته واغتصبوا مستقبله وشيؤوه، فكتبوا بذلك يوم مولده وانطلاق العد التنازلي لسقوط نظامهم المستبد الذي طغى وتجبر لسنين طويلة وأجهض كل الطاقات الخيرة في البلاد. فالمعادلة التي أرستها ثورة 14 جانفي 2011 التونسية قلصت من حدة التناقض بين الموت والحياة، فإرادة الموت حرقا أصبحت عملا خلاقا وتحريضيا لتواصل الانتفاضة وانتشارها وتوقا لبعث حياة جديدة ليست تكرارا لما سبقتها ولا إعادة ممثلة ودراماتيكية لما كان سائدا، فانتشرت الانتفاضة عبر أجزاء الوطن كالنار في الهشيم وعمت كافة البلاد لا تحركها أي قوة منظمة وليست مؤطرة من أي حزب سياسي أو منظمة نقابية أو حقوقية ولا حتى من جهاز خاص ومستقل ولا تحمل هدفا ايديولوجيا أو مذهبي بل رفعته شعارات تعنون وتحتضن خلجات الشارع. إن الذي كان يغذي صدق وعفوية الاحتجاجات والتظاهرات هنا وهناك هو الرفض ولا شيء غير الرفض لمنطق الاستبداد والعجرفة، تزكيها إرادة الحرية والكرامة وتجاوز مرحلة الخوف في سنة أرادها النظام المتسلط سنة للشباب، فكانت له مفاجأة أمام شباب لا يخاف، متلهف لحياة أفضل تعيد له انسانيته، فعبد أن كانت الشعارات المرفوعة تنادي في البداية بالحق في الشغل والحياة الكريمة سرعان ما نضجت وأينعت فأثمرت باحتكاكها بالحركة النقابية والديمقراطية المتواجدة على الساحة وعبر الجهات وأصبحت أكثر عمقا وتجذرا وباتت تطالب برحيل «الديكتاتور» مصدر الفساد والحرمان الذي يتخبط فيه الشعب بأكمله. فالثورة التونسية شكلت انتفاضة عمّت وشملت البلاد بأكملها فأتت أكلها ولكن بمقاييس نسبية غير محددة الأبعاد والنتائج فالنظام باق حتى بعد ذهاب رئيسه إذ لم يقع تركيز لجان شعبية أو أطر تنظيمية جديدة في الأرياف والجهات التي أطلقت الشرارة الأولى التي فجرها محمد البوعزيزي وبقيت السلطة المحلية التي قمعت وكبدت جماح ثورة المحتاجين والعاطلين عن العمل هي ذاتها تنتظر استقرار الوضع الأمني لتعود الى سابق عهدها وغيها وتنكيلها بالمواطن الأعزل وقد تفكر في الانتقام منه لأنه تجرأ على التمرد عليها والصراخ في وجهها لا وألف لا وكفى. فتحقيق مطالب القوى الديمقراطية والأحزاب المتواجدة بالبلاد التي تسعى لتحديد معالم طريق الانتفاضة وربما تكرسها لمصلحتها قد تركزت على المستوى المركزي وبالعاصمة تحديدا وبعيدا عن الجهات ومنها من يريد المشاركة في ما تبقى من حكومة حتى لا تبقى الدولة في مهب الرياح والأطماع وتحقيق الحدّ الأدنى من استقرار في البلاد وتصريف الأعمال الضرورية واللازمة ومنها من يريد مواصلة الانتفاضة والاحتجاجات الى غاية استقالة الحكومة الوقتية وحل الحزب الحاكم الذي احتضن القمع والارهاب على مدى خمسين سنة (50 سنة) وفي اعتقادهم لا بد أن تكتمل الثورة التي أطلق شرارتها محمد البوعزيزي بمعزل عن كل النتائج والأوضاع التي قد تحدث وتعهدوا والتزموا فجأة بإكمال ما لم يبدؤوه فعلا. فالثورة التي حدثت في تونس قد كانت في الحقيقة بدون علامات أو رموز «كاريزماتية» كما حدث ذلك في أصقاع عديدة من العالم، لم يكن لها قاعدة مذهبية أو ايديولوجية تؤطرها أحزاب ممثلة في كافة أوساط الشعب وهدف ينبغي الوصول إليه بمساهمة أطر وكوادر قادرة على تسلم السلطة إنها ثورة بدون رأس ورمز ابتدأها شاب كره حياة الذل والمهانة وفضل حرق نفسه عوض حرق مركز الولاية وأعوانها الذين لم ينصتوا إليه ولا يريدون حتى النظر إليه وهي قمة التحدي وعدم الاكتراث في مواجهة إنسانية الانسان وحبه للخير.. إنها فحسب ثورة ذات خصوصية تونسية فريدة من نوعها حتى ولو لم تركز نظام ثوري جديد على انقاذ النظام السابق.. ثورة الشارع الذي رفض القوالب والأجهزة المؤطرة حزبية كانت أم حكومية، لذلك بقيت الى حدّ هذا التاريخ في الشارع الذي ولدت فيه وتنتظر ابداع أجهزة تحكم وتنير حركتها وتقيها النكسات وأطماع الأعداء المتربصين لها. بقلم: الأستاذ نبيل بن فرج