عاجل/ وزير الداخلية: تونس في مواجهة مُباشرة مع هذه التحدّيات والتهديدات    محافظ البنك المركزي: تونس تطمح لأن تكون منصّة مالية جديدة على الصعيد الإقليمي والدولي    عاجل/ الحكومة تحدّد كمية المخزون التعديلي من الحليب الطازج المعقم    عاجل/ حصيلة الشهداء في غزّة تتجاوز ال65 ألف شهيد    عاجل/ وفاة المرأة التي أضرمت النار في جسدها داخل معهد ثانوي بهذ الجهة..    عاجل/ إحباط تهريب صفائح من ال"زطلة" بميناء حلق الوادي    عاجل: آخر سفن الأسطول المغاربي لكسر الحصار تغادر ميناء قمرت    تحويل جزئي لحركة المرور على مستوى مستشفي الحروق البليغة ببن عروس    نقابة الصيدليات: إيقاف التكفّل لا يشمل الأمراض المزمنة    سورة تُقرأ بعد صلاة الفجر لها ثواب قراءة القرآن كله 10 مرات    105 حريقاً في يوم واحد: الحماية المدنية تكشف حصيلة تدخلاتها خلال 24 ساعة    الكاف: حجز كميّات من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك    أولمبيك سيدي بوزيد يتعاقد مع الحارس وسيم الغزّي واللاعب علي المشراوي    جندوبة الرياضية تتعاقد مع اللاعب بلال العوني    القصرين: مشروع نموذجي للتحكم في مياه السيلان لمجابهة تحديات التغيرات المناخية والشح المائي    عاجل : نقابة شركة الشحن والترصيف بميناء رادس تطلق ناقوس خطر    قابس: تخرج الدفعة الأولى من المهندسين بالمعهد العالي للاعلامية والملتيميديا    جريدة الزمن التونسي    عاجل/ تأجيل إضراب موزّعي الأدوية الى هذا الموعد..    صدمة في القلعة الكبرى: لدغة ''وشواشة'' تُدخل شابًا قسم الكلى    انهاء مهام هذا المسؤول بوزارة التربية.. #خبر_عاجل    عاجل/ الجامعة التونسية لكرة القدم تحذر وتتوعد بتتبع هؤلاء..    الرابطة الأولى: إياد بالوافي يمدد عقده مع النادي الصفاقسي    عاجل: الإدارة الوطنية للتحكيم تجمّد حسام بولعراس مرة أخرى...علاش؟    الرابطة الأولى: تشكيلة مستقبل قابس في مواجهة النادي البنزرتي    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة مستقبل قابس    المقرونة: أصلها عربي و لا إيطالي؟ اكتشف الحكاية    عاجل..انقطاع الإنترنت والاتصالات وتحذير من توقف الخدمة الصحية في غزة..    وزارة التربية: زيادة عدد المدارس الابتدائية الخاصة    ارتفاع الحرارة ليس السبب...النفزاوي يكشف أسرار نقص الدواجن في الأسواق    سفينة "لايف سابورت" الإيطالية تنضم لأسطول الصمود نحو غزة كمراقب وداعم طبي    اختفاء سباح روسي في مضيق : تفاصيل مؤلمة    الدينار التونسي يتراجع أمام الأورو إلى مستوى 3.4    مقارنة بالسنة الفارطة: زيادة ب 37 مدرسة خاصة في تونس    بنزرت: إصابات خفيفة في انقلاب حافلة عمّال بغزالة    طقس اليوم: سماء قليلة السحب    عاجل: طلبة بكالوريا 2025 ادخلوا على تطبيق ''مساري'' لتأكيد التسجيل الجامعي..وهذا رابط التطبيقة    القيروان: النيابة العمومية تأذن بتشريح جثة العرّاف ''سحتوت'' بعد وفاته الغامضة    البحر اليوم شديد الاضطراب في الشمال.. وياخذ وضعية خطيرة ببقية السواحل    الكورة اليوم ما تفلتهاش... هذا برنامج المقابلات للرابطة الأولى    وزير التجهيز والإسكان يؤكد على تفعيل الدور الرقابي للتفقدية العامة بالوزارة    الإحتلال يقصف مستشفى الرنتيسي للأطفال بغزة    أسباب غير متوقعة وراء نقص حالات الزواج عند التونسيين    أمل جديد لمرضى القلب.. تشخيص مبكر ينقذ الحياة في دقائق    جريدة الزمن التونسي    لمدة 48 ساعة فقط.. جيش الاحتلال يعلن عن ممر آمن لإخلاء سكان غزة جنوبا    مولود ثقافي جديد .. «صالون الطاهر شريعة للثقافة والفنون» ملتقى المثقفين والمبدعين    وفاة روبرت ريدفورد: رحيل أيقونة السينما الأميركية عن 89 عامًا    مشاركة تونسية لافتة في الدورة 13 من المهرجان الثقافي الدولي للمالوف بقسنطينة    فيلمان تونسيان ضمن مسابقات مهرجان الجونة السينمائي    لأوّل مرة: هند صبري تتحدّث عن والدتها    راغب علامة عن زوجته: لم تحسن اختياري    انطلاق المخطط الوطني للتكوين حول الجلطة الدماغية    "غراء عظمي".. ابتكار جديد لعلاج الكسور في 3 دقائق..    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    أبراج باش يضرب معاها الحظ بعد نص سبتمبر 2025... إنت منهم؟    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور الفيلسوف فتحي التريكي ل«الشروق»: هذا هو سرّ غياب «الزعيم القائد» أو «المثقّف الأوحد» عن قيادة الثورة: هكذا حوّل الشباب ال«فايس بوك» إلى علاقات نضال فعلية أطاحت بنظام الدكتاتور
نشر في الشروق يوم 01 - 02 - 2011

هو صاحب مشروع فلسفي متطور.. يخجلك تواضعه عندما يتحدث إليك.. الأستاذ الفيلسوف فتحي التريكي الذي التقته «الشروق» في هذا الحوار وهو يعيش بكل وجدانه إرهاصات ثورة الشعب.
٭ هل يمكننا في الوقت الحالي تحديد طبيعة الثورة التونسية التي مازلنا نعيش أحداثها المتسارعة؟
لا يمكنني الإجابة عن هذا السؤال الآن ونحن نعيش تقلبات هذه الثورة العظيمة والمتفردة. ولكن بكثير من التواضع والصبر والتأني أوضح بعض ما يخالج نفسي من أفكار وتأملات حولها. لا أبتغي تنظيرا ولا تأطيرا ولا تشخيصا. ومع ذلك لا بدّ من أن نتفحّص شيئا ما حول طبيعة هذه الثورة ومفاهيمها وتصوراتها ومرجعياتها من خلال وقائعها واستنادا طبعا إلى منهجيات تحليلية أفرزها تاريخ الفكر البشري مع العلم ان هذه الثورة المتفردة هي التي أفرزت ومازالت تفرز مفاهيمها ومقاصدها بنفسها في كل الميادين باعتبار أنها ثورة الشباب المبدع، والتي مازالت لم تكتمل ولم تصل إلى غايتها المتمثلة في تغيير نظام الغطرسة والدكتاتورية من الجذور. ونحن نعرف أن الثورة الحقيقية لا تنتهي إلا بنهاية أسبابها وأنها «معركة» متواصلة ضدّ من وقف في وجهها، وقد تنتهي هذه المعركة بالارهاب والعنف الشديد كثورة فرنسا أو ثورة أكتوبر البلشفية وغيرهما. وكم أتمنى أن تنتج ثورتنا سلما متواصلا وحرية حقيقية حتى تؤكد فرادتها وفرادة منهجيتها ولا بد من النضال المتواصل بلا هوادة من أجل ذلك. وهي دعوة صريحة في الفترة الحالية إلى تغليب العقل على الوجدان حتى نجني ويجني الشباب ثمرة هذه الثورة التأسيسية لنمط من الحياة لم تشهده تونس الحديثة مطلقا.
٭ كيف نفهم في نظرك عنصر بداية هذه الثورة؟
هي ثورة محمد البوعزيزي هذا الشاب الذي أحرق نفسه في مدينة سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 احتجاجا على القمع والفساد لما داس عون شرطة البلدية كرامته. فقد كانت المأساة بداية الحدث لا محالة ولكني هنا أريد أن أؤكد أن البداية في الثورة هي بدايات واستئناف متواصل للحدث. فإذا كان استشهاد البوعزيزي هو الحدث، حدث الأحداث في هذه الثورة، فإن بدايتها الأصلية في نظري تتمثل في انتفاضات الشباب المتعددة منذ سنة 1966 عندما خرج الطلاب إلى الشارع احتجاجا على سياسة القمع وتواصل بعد ذلك نضال الشباب الجامعي دون انقطاع بالاضرابات والمظاهرات والانتفاضات والاجتماعات والاحتجاجات لأنه لم يشعر، لا في نظام بورقيبة ولا في نظام بن علي الدكتاتوري والفاسد، بحريته وكرامته. ولا نكتفي بالانتفاضات الطلابية بل هناك نضالات يمكن أن نضفي عليها صفة البداية مثل انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008.
كذلك الشأن عندما خرج شباب منزل بوزيان والمكناسي والقصرين وتالة بمظاهرات سلمية ردّت عليها الدكتاتورية بالتقتيل الشنيع. تلك هي بداية أخرى واستئناف جديد للحدث. كان الجميع يتصور أن يأخذ هذا الحدث منحى العنف وربما الارهاب، ولكن الثورة استمرت بانتفاضة سلمية متواصلة كان فيه المشهد واضحا: شعب لا يخاف ينادي بالكرامة والحرية مقدما صدره فداء لوطنه ودولة ديكتاتورية فاسدة تجيب بالعنف والقتل لتحوّل المشهد إلى خراب.
هذا المشهد الجديد المعبر أنتج بداية أخرى غير منتظرة: الشاب التونسي ابتكر طريقة جديدة للنضال بواسطة الشبكة العنكبوتية للإعلامية (بالانترنيت) وخاصة ال«فايس بوك» . إنها حقّا قدرة عجيبة لم تحدث من قبل بهذه القوة وبتلك الشجاعة: علاقات خيالية تأسست منذ سنوات ورغم أنف الدكتاتور بواسطة الأنترنيت تتحول في الشارع إلى علاقات نضال فعلية، فلا يكفي الاحتجاج ولا يكفي نشر الخبر عبر مختلف وسائل الاعلام ولا تكفي قوة الصورة تلك التي يلتقطها الشاب بهاتفه الجوال عن الأحداث والوقائع الحقيقية ببشاعتها وبرمزيتها ويضعها في ال«فايس بوك» لنشرها حتى يشاهدها الملايين من البشر في تونس وفي خارجها. لا يكفي كل ذلك، بل ينزل الشباب إلى الشوارع يقودون مظاهرات صاخبة وسلمية معرضين أنفسهم إلى الموت هاتفين بسقوط الدكتاتورية.
وبداية انهيار الدكتاتور هي أيضا انتفاضة القواعد النقابية في الجهات وإعلان الاضراب العام في المدن التونسية الحساسة. فكانت مظاهرة صفاقس الضخمة، وكانت مظاهرة يوم الجمعة 14 جانفي 2011 وسط العاصمة أمام وزارة الداخلية، وكانت الشعارات كلها تقريبا تنادي بسقوط الدكتاتور ورحيله عن السلطة هو وأهله الذين عاثوا في تونس فسادا. بداية هذه الثورة بدايات مات فيها شهداء برصاص الدكتاتورية في هذه الأحداث التالية وتعذب شبابها تعذيبا لا يوصف في سجونها منذ الستينات من القرن الماضي كما مات في السجن من مات. اليسار والإسلاميون والقوميون دفعوا الضريبة غالية بالتعذيب والتشرد والآلام بكل أنواعها.
هكذا إذن لا نستطيع فهم الثورة أفقيا بواسطة أحداث متتالية مرتبطة ومتسلسلة منطقيا بل يجب أن تكون المقاربة عمودية تعددت فيها البدايات حتى كان الحدث الذي أنتج بدايات أخرى لم تكن منتظرة.
٭ هل كان المثقف غائبا كما جاء في بعض التحليلات لهذه الثورة؟
ليس من السهل أن ندعي أن المثقف كان غائبا عن هذه الأحداث وعن هذه الثورة المجيدة.
المثقف كان موجودا بفكره وقلمه وجسده منذ البداية. فستبين لنا التحاليل عندما تهدأ الثورة أن بعض الممارسات النضالية كانت تقودها الطبقة المثقفة في الجهات سواء كانوا من أصحاب الشهائد البطالين أو من أساتذة ومعلمين. ولعل خاصية بارزة من خاصيات هذه الثورة هي دور الطبقة الوسطى الفعال في الانتفاضة أولا ثم في تحويل هذه الانتفاضة إلى ثورة.
نعم، لم يكن هناك زعيم سياسي يقود الحشد، ولم يكن هناك زعيم ثقافي يحرك الجماهير، ومن الغباوة البحث عن «سارتر الثورة». لأن هذه الثورة لم تقع في مناخ يشبه مناخ سارتر، ولا مناخ منتج للزعامة. انتهى عصر المركزية السياسية والمركزية الثقافية وحلّ محله عصر الشبكات، عصر تعدد المركزيات والنواتات الفاعلة. لأن الشباب في هذه الثورة، بلا زعامة وبلا مركزية، سخر ثقافته الجديدة (الانترنيت) التي كنا ننعتها بالتقنوية لخدمة الثورة وللتحكم في مجرى أحداثها ونشر مبادئها في تونس وفي العالم ولتكوين هذه الرابطة القوية بين كل أفراد الشعب حتى تكون هذه الثورة مدنية في الأصل والمقصد قبل أن تأخذ الصبغة السياسية. وهي المرة الأولى في العالم أن تأخذ الثورة صبغة مدنية رغم ان السياسيين قد ظهروا بعد خلع الدكتاتور ليحوّلوا الثورة الى حدث سياسي.
هي إذن ثورة البوعزيزي وثورة الحرية والكرامة وثورة الشباب ولكنها ايضا ثورة أجيال قاومت بوسائلها المختلفة والمتنوعة بالجسد والقلم وصمدت، حرّكت السواكن ودرّست وتوجهت الى الوعي الفردي والانساني لإنهاضه وتطويره وكل ذلك ضد الغطرسة والدكتاتورية. لقد اندهش مثقفو الغرب مثلا كيف ان الشعارات في هذه الثورة منذ الوهلة الأولى تصب كلها في «القيم الكونية» كالحرية والكرامة والتقدّم والإطاحة بالدكتاتورية وغيرها، وهي التي تعوّدت ان ترى الشوارع العربية تزخر بالنداءات المتطرفة والشعارات التراجعية وقناعتي أنه لا إشكال في ذلك، لأن هذه الثورة قد اندلعت بشباب قد وعى وتعلّم وكان نتاج نضالات متعددة وبدايات واستئنافات لهذه الثورة على مرّ سنوات الحكم البورقيبي (حتى وإن كانت تنويرية وأقل عنفا) ودكتاتورية بن علي وعائلته المافيوية.
٭ كيف تفسر غياب الزعيم القائد لهذه الثورة؟
تساءل بعضهم في الغرب قائلا: «أين زعيمكم»؟ وقال آخر إنه لم يجد في هذه الثورة مثقفا بطلا مثل سارتر، وأقر المحللون كلهم تقريبا أن هذه الثورة كانت بلا قيادة، اندلعت هكذا وقادت نفسها بنفسها وأنتجت عفويتها ما لم تنتجه قيادات الأحزاب المعارضة ولا قيادات المنظمة النقابية الوحيدة في البلاد. كيف نفهم كل ذلك، وما هو حجة الصحة في هذه المواقف وهل يمكن لثورة ان تحدث بلا قيادة فكرية وبلا تأطير سياسي؟
في حقيقة الأمر ان ما حدث لو حدث في القرن الماضي لما كان ذلك ممكنا ولما تحوّلت هذه الانتفاضة الى ثورة وسنحاول ان نفهم لماذا كل ذلك من خلال دراسة مفهومي المركز والشبكة التي قمت بها في كتابي «فلسفة الحياة اليومية» الصادر سنة 2009.
وقد بيّنت انه قد بدأت الآن تتغيّر منزلة فكرة المركز في أنحاء كثيرة من العالم. إذ ظهرت طريقة جديدة للتواصل مثل شبكات ونواتات متعددة مترابطة تعمل بواسطة قنوات اتصال على طريقة الاعلامية. فالبلدان الأوروبية توحّدت الآن لا بواسطة ايجاد مركز لها، بل بتكوين نواتات متعدّدة في أمكنة متعددة من أوروبا. كذلك الشأن بالنسبة الى الوضعية المالية في العالم ونعني الروابط بين «أسواق مالية» متعددة في العالم، وبالنسبة الى الاعلام كالارتباطات الفضائية والمحطات التلفزية الرقمية المختلفة التي قد قضت على مركزية الاعلام داخليا وخارجيا.
ولعلّ نقطة البداية في هذه الظاهرة الجديدة تتمثل في الثورة الاعلامية الهائلة التي غيّرت مجرى حياتنا اليومية، فاتصلت بأعمالنا كلها تقريبا وطوّرت الترابط بواسطة الانترنات بصفة مباشرة وآنية. وقد لعبت الدور الرئيسي في اندلاع ثورتنا المجيدة.
فتصوّراتنا المختلفة قد فقدت مركزيتها، فلم نعد نفكر بالضرورة الآن من خلال مرجعية مركزية، لم نعد نفكر مثلا مع ماركس أو ضدّه، ولم نعد نبني دائما مراحل تخميناتنا بعلاقة متينة مع أنساق فلسفية واتجاهات مذهبية.
لقد أصبح تفكيرنا يكاد يكون مؤقتا يتأقلم مع سرعة التغيّرات وسرعة إحداث الشبكات والنوّاتات الترابطية وسرعة حلّها. فالمعارف قد أصبحت اليوم تتراكم بشدة وتتغير بشدّة، وأصبحت المعلومة في حدّ ذاتها موجودة داخل ارتباطات متعدّدة ومختلفة، فيصعب فهمها وتحليلها رغم أنها أصبحت من معطيات الحياة العامة، يكفي أن نستعمل الحاسوب لنصل إليها بصفة مستمرّة، بل لنحصل على المعلومات الخاصة بالثقافات المتنوعة في العالم وعلى الانتاجيات الفكرية والفنية التي أصبحت متوفرة بصفة مذهلة، في تناغم بين الصورة والصوت، تأتيك المعلومات في لحظة تكوّنها وما تكاد تحملها إلاّ وتأتي معلومة أخرى لتحلّ محلها.
هكذا إذن تحولت المركزية المطلقة والزعامة الكاريزمية والمثقف الأوحد والرمز الى مجموعة شائكة من العلاقات الحينية تتركب وتنحل بسرعة لتقود الأحداث والأفكار وتوجهها بصمت دون أن تتموقع في الأمام أو أن تظهر في وضعية القيادة. فالمجموعة الشبكية الهائلة في ال«فايس بوك» قد لعبت دور المؤطر الفكري الثقافي لهذه الثورة لأنها كانت تنشر المعلومة بسرعة عجيبة وتبتكر الشعارات وتبلغ النداءات وتدعو الى الخروج والتظاهر والاعتصام. طبعا لا نعرف من يبدأ ومن ينشر ومن يبلغ ومن ينادي، ولكن هناك حركية علائقية من الجميع ستصبح عندئذ التصور الذي يتم نشره بسرعة وهو الذي سيفضي بنقاش طويل أو بتعليقات متعدّدة عن طريق الهاتف الجوال لأحداث وقعت حقيقة فحملت في برامج ال«فايس بوك» ونشرت وإمّا أن تكون أبدعته معتبرة لمواقف وآراء كلها تلعب دورها في تحريك الهمم وايقاظ الوعي وتأطير الجماهير.
هذا النظام الثقافي الجديد لا يتطلب قيادة فكرية موحدة يرمز إليها زعيم ثقافي معين، ومن سيلعب هذا الدور سيكون أضحوكة لأنه سيطبق تصوّرا أفرزته حقبة زمنية قديمة على ايبستيمية جديدة لم يفقه مكوناتها. فلا حاجة للثورة التونسية الى مثقف أوحد أوالى نبي. هي ثورة ال«فايس بوك»، ثورة الشبكة العلائقية الخيالية والواقعية في الآن تتطلب أن يكون المثقف حاضرا بأفكاره والفنانون بابداعاتهم والسياسيون بتحاليلهم وممارساتهم، ولكن بشرط أن يتركوا جانبا وبصفة نهائية الفكر الواحد والابداع الواحد والحزب الواحد والعقلنة الواحدة وأن يفهموا نهائيا أن هذه الشبكة تقتات من التنوع وتترعرع في الحرية وتنشر الكرامة. فلا غرابة إذن أن تدعو الى تقويض النظام الرئاسي كما تدعو الى التفكير بوجه آخر وتحرير الابداع والابتكار في كل الميادين: هي ثورة التنوع، ثورة التعدد والتحرّر لذلك يلعب الشعب دوره دون أن يتزعم، ويبدع الفنان دون أن يتوحّد ويعمل السياسي دون أن يتغطرس هذا ما نعنيه عندما نتحدث عن ثورة بلا زعامة. فهي ثورة ذات قيادة ولكن قيادتها تكمن في الشبكة العلائقية لا في الزعامة والتزعم.
هل هي حقيقة ثورة أم إنها انتفاضة لا غير؟
يقول الفيلسوف الفرنسي آلان باديو تعليقا على هذه الثورة في درس جامعي ألقاه في 19 جانفي إنها «انتفاضة ناجحة» بخلاف الانتفاضات الأخرى التي شاهدها العالم والتي كانت تخمد بمجرد قبول بعض طلباتها من قبل السلطة.
في الحقيقة يذهب كثير من المحلّلين إلى أنّ ما ذهب إليه آلان باديو سليم بينما يرى آخرون أنها ثورة نعيش أحداثها الآن ويضيف البعض بأنها ثورة لم تكتمل بعد، بل هي مسار ثوري سيحدث حتما تغييرا لا نعرف بعد مآله.
لا بدّ أن نذكر هنا أن مفهوم الثورة يفيد أصلا وفي كل المعاجم تقريبا حركة سياسية واجتماعية يكون القصد منها تغييرا مفاجئا وعميقا للبنية السياسية أو الاجتماعية لدول ما عندما يقوم الشعب (أو مجموعة كبرى منه) بانتفاضة ضد النظام فيقوّضه ويأخذ بزمام الأمور ليضع نظاما جديدا حسب برنامجه ومطالبه.
ذلك يعني أن عناصر الثورة هي: انتفاضة شعب أو مجموعة منه تغير النظام السياسي، وتطبيق برنامج سياسي جديد. أما الانتفاضة فهي احتجاجات شعبية عارمة يتمرد فيها الشعب أو جماعة منه على النظام دون أن يكون هناك تحوّل في طبيعة النظام، مهما كانت درجة استجابته لمطالب الانتفاضة.
فما عاشته تونس من أحداث منذ تمرد محمد البوعزيزي هو لا محالة مسار ثوري بدأ بانتفاضة متعدّدة في مدن تونسية مختلفة، مسار زحف شيئا فشيئا نحو العاصمة فكان الحشد وكانت الجماهير المتزايدة تحتل المواقع الاستراتيجية بالعاصمة وهي تنادي باسقاط الدكتاتورية أولا وقيام نظام الحرية والديمقراطية والكرامة ثانيا، وذلك بطريقة سلمية دون استعمال العنف الجماهيري، وهي بدون قيادة مركزية. فسقط النظام وهرب الدكتاتور مهرولا.
كما الحال في كل بداية ثورة، حاول النظام القديم الحفاظ على بعض مواقعه في حكومة انتقالية. فكانت الانتفاضة الثانية في كل المدن وكان الزحف ثانية نحو مقر الحكومة في هذه المرة بينما كان الحدث في المرة الأولى أمام وزارة الداخلية، وهمّ الشعب هو القضاء على رموز العهد السابق حتى تنجح الثورة كليا ويتم بذلك تطبيق مطالب الشعب وهو نظام سياسي ديمقراطي ونظام اجتماعي عادل أو بتعبير آخر: حرية وكرامة.
وكل ذلك يجعلني أميل الى تسمية ما يحدث الآن في تونس بالثورة حتى وإن كانت هذه الثورة في مسارها الأول لأنها ستحدث تغييرات جذرية في علاقة السلطة بالفرد في المجتمع تصب كلها حسب تكهناتي في بروز الفرد من حيث هو صاحب الحق وصاحب القرار، وستجعل من القانون هو الضامن الأوحد لكرامته في الداخل والخارج. لهذا فتحت المجال واسعا لبناء علاقات كرامة وتسالم بين أفراد المجتمع.
ولعلها أيضا ستحدث ثورة ثقافية وإعلامية متجذرة لأن الشباب الذي أبدع بوجه آخر في كل الميادين لم يأخذ حظه في العهد السابق، فسيجد اليوم فضاءات جديدة لابداعه المختلف ولطموحاته الثقافية المتنوعة.
ما هو رأيك في دور الفلسفة في هذه المرحلة؟
لا بد أنك لاحظت تغييب الفلسفة في الاعلام رغم تجذر تحولاته فكل المسؤولين في اليسار أو في اليمين يخشون تدخل الفيلسوف من ناحية ويحتقرون تفكيره ويعتبرونه أضغاث أحلام وأوهام لا تغني ولا تسمن من جوع. لذلك أعتبر أن دور الفيلسوف هو الالتحام بالشعب وبالشباب للصمود والمقاومة مثلما فعل أساتذة الفلسفة في الجنوب وقد كانوا فاعلين في تفجير هذه الثورة المجيدة.
فمقصد الفلسفة الأول والأساسي في خضم حياتنا وفي تأزماتها يتمثل في إعادة تنظيم معارفنا على ضوء انحلال المركز وإعادة تنظيم سلوكنا الاجتماعي والأخلاقي والسياسي من خلال تلك الرؤية التنوعية للعالم والحياة. فيمكن بذلك للفلسفة أن تكون قاعدة معرفية أصيلة للوعي وسندا لارادة الحياة لا داخل تراكم المعارف وتشعب سبل العيش في وضعنا الحالي فقط بل وأيضا في كل فترات تاريخنا.
هكذا إذن يتحدد دور الفلسفة حاليا باعتبار المسار الثوري لحياتنا في نقد المعارف والمواقف والسلوكات وتنوير العقول وتغليب العقل على الوجدان وفي توضيح شروط الثورة ومقاصدها وفي تشخيص معضلاتها ومستتبعاتها فيكون بذلك الفيلسوف متجذرا في الحشد يقتات من قوتهم وينير سبيلهم ويستنير بنضالهم بحيث ستكون الثورة اليوم هي المجال الذي فيه يتم هذا النقد وهذا التوضيح والتشخيص من خلال أطر مرجعية حياتية وروحية ورمزية وفكرية يبرزها الفيلسوف بعلمه وممارساته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.