ولي معك منذ أمد جميل تحية الصباح من أفق قومي يجعلني منك ويجعلك لي. لنا معا تلك الجدة التي ابحرت من شواطىء طفولتي الى شواطىء طفولتك. لتضع، في ذاكرتنا الجمعية، كانثى نسر جميل بيوض روح التمرد البناء، تلك التي جعلت من جلد ثور بحجم مملكة اسمها قرطاج، ومن ثم جعلت من النيران مآلها كي لا تستسلم لحكم طاغية. هي الاسطورة، ولكنها الرمز، وهما اللذان يصنعان التاريخ. التاريخ الذي جعل قرطاج تتحدى الامبراطورية الجالسة على كرسي العالم. ويجعل اليوم لبناننا يعيد قصة التحدي. هو الاخضر وانت الخضراء، والنار التي فاجات العالم من خضرته قلبت معادلات الاستبداد والمصادرة والهزيمة فيما يتعلق بالحرية الوطنية و القومية، كما قلبت النار التي فاجات العالم من خضرتك معادلات القمع والمصادرة والاستبداد فيما يتعلق بحرية المواطن والانسان. هي المعادلة الصعبة التي لن نستطيع كعرب العبور الى احداها من دون الاخرى: لا نهضة لوطن، ولا حرية لامة، الا بمواطنين احرار، بدولة تصون حقوق الانسان وحقوق المواطن، ولا حريات لافراد في وطن فاقد للسيادة وللكرامة، ولا سيادة وكرامة لبلد عربي دون حرية وسيادة الوطن العربي الكبير. لسبب قد يبدو ابسط من الواقع القومي الذي يناقشه البعض، سبب هو ان المخططات التي تضعها القوى الكبرى للمنطقة – وليس فيها سر – توضع على اساس ان هذا العالم العربي واحد. لا حرية ولا حقوق فردية وفلسطين محتلة، لا حرية ولا حقوق والعراق محتل، لا حرية ولا حقوق والجبهة المقاومة في لبنان مهددة، لا حرية ولا حقوق ومصر فقدت دورها كدولة اقتراح للامة كلها ( وفق تعبير نادر فرجاني ) ولكن لا حرية ولا حقوق لهذه القضايا الكبرى كلها اذا لم تكن الحريات العامة مصانة لكل فرد، اذا لم تكن الثروة الوطنية في خدمة مصالح الشعب، اذا لم تكن السلطات خاضعة للتداول، اذا لم تكن المحاسبة الشعبية مؤمنة ومتحققة، اذا لم يكن احترام القيمة الانسانية فوق اعلى العروش. غير ان ذلك كله يظل معرضا لخطر، قد تكون تونس معرضة له اقل من سواها، ولكنها لا تعيش مفصولة عن محيطها. الخطر الكبير هو خطر تحويل الوطن الى اديان ومذاهب واعراق، واحيانا الى مناطق واقاليم، الى هويات قاتلة تعمل سكاكينا في جسد الهوية الواحدة فنحن عربا لا لاننا من عرق عربي، بل لاننا، ننتمي الى عروبة حضارية لا الى عروبة مختبر الدم. ونحن مسلمون لاننا ننتمي (على اختلاف ادياننا، طوائفنا ومذاهبنا) منذ اربعة عشر قرنا الى الحضارة العربية الاسلامية، التي صاغت ثقافتنا وهويتنا، وخطابنا وسلوكنا. لكن كون الاسلام هو هويتنا، لا يعني بانه يمكن لنا ان نتجاوز الحاجة الى الفصل بين الدين والدولة، كي يبقى الاثنان مصونين، وكي لا يعيق احدهما مسيرة الاخر. ولننظر الى الغرب الاوروبي، لندرس مسيرة نهضته، وسلامه الوطني، فهما لم يتحققا الا بعد ان تمكن من عبور امرين : عبور الحروب الدينية الى مفهوم و قانون المواطنة والعلمنة وعبور المنطق العرقي الى مفهوم و قوانين مكافحة العرقية بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كلف المنطق الديني والعرقي اوروبا والعالم ثلاثين سنة من الحروب الدينية وحربين عالميتين واكثر من خمسين مليون قتيل في حين كنا نحن نعيش في بلداننا العربية تعددية لم تجعل يوما المواطن يقتل اخيه. ولا يجوز لنا ان نعود في القرن الواحد والعشرين الى منطق نرى كيف يدمر العراق والسودان، كيف يهدد مصر بعد ان احرق لبنان لمدة سبع عشرة سنة. خطر لم يفتا يوما يعانق مخططات التقسيم الذي اذا لم ينجح في ان يتحقق قانونيا كما حصل في السودان ينجح في ان يتحقق ميدانيا، كما هو الحال في العراق، والنتيجة اما ان يشطر الوطن بالسكين نهائيا، واما ان يشطره بعصاة حديدية فيشله. لان مخططات تجزئة المجزا لم تعد سرا ولا اكتشافا مخططات كثيرة الشعاب، بدا نها قدر لا راد له، بعد سقوط العراق، وتاكد الحكام المتسلطون على رقابنا، بان الشعوب قد انتهت، فبعد ان بشرنا الفكر الاميركي الصهيوني العولمي بنهاية الايديولوجيات، جاء الجيش الاميركي يبشرنا بنهاية الشعوب، فتنفس السلاطين الصعداء وظنوا ان كل ما اصبح مطلوبا منهم، لاطلاق يدهم بدون قيود في البلاد والعباد، هو ارضاء الاميركي والغربي وبالطبع اسرائيل، رضى شروطه معروفة وسهلة. فقد المواطن اللقمة ولكنه فقد العدالة والكرامة، الفرديتين واالوطنيتين، ولم ينتبه الاسياد الصغار منهم والكبار الى ان هذا الثلاثي انما يعني واحدا من اثنين : اما الموت النهائي واما الثورة.