إذا كانت ثورتنا المباركة قد تميزت عن كل الثورات بطبيعتها الشعبية العفوية وشكلها السلمي ومضمونها المبني أساسا على توفير الكرامة لشعبنا العريق وهو ما سجله لها التاريخ فإنها تشترك مع كل الثورات في ما قطعته من مراحل ومحكومة بما يعقب ذلك من استمرارية وتطورات حتى تتحقق الأهداف... والمراحل الأساسية في كل ثورة هي الإطاحة بالقائم من النظم وإحلال صيغة مغايرة للدولة والحياة المجتمعية... ونظام الطاغية قام كما نعرف على سلطة فردية وأجهزة مختلفة حزبية وأمنية وإدارية نفذت إرادة الحاكم سواء بقناعة أومن دونها .وكانت سيطرته كاملة أيضا على كل المنظمات الوطنية أو على الأقل قياداتها وكل أو جل منظمات المجتمع المدني التي سمح لها بالنشاط لعل أهمها اتحاد المرأة واتحاد الفلاحين واتحاد الصناعة والتجارة الخ.. وكذلك اتحاد الشغل الذي نعرف جميعا أن قواعده ظلت تناضل على جبهتين: الجبهة النقابية وجبهة سعي النظام إلى فرض قيادات يرضى عنها .ومن أجهزته البرلمان بمجلسيه والبلديات والولاة والمعتمدون وصولا إلى العمد في أقصى المناطق... ثم جمّل نظامه بأحزاب وصفت ب«المعارضة» منحها أيضا دعمه... ولا يمكن أن ننسى رئيس احد هذه الأحزاب وهو يناشد الشعب التصويت للطاغية في الانتخابات الأخيرة .كما لا يمكن أن ننسى «تثمين» بل تثمينات ممثل الطبقة الشغيلة لسياسات النظام أياما قليلة قبل سقوطه ولن ننسى حل نقابات أعربت عن تأييدها لانتفاضة الحوض المنجمي ولا الموقف المتفرج إن لم نقل السلبي من ثورة شعبنا في أيامها الأولى بحجة ان مطالبها ليست نقابية ولا يمكن «تجرجرها»... وبقراءة موضوعية متأنية لما وصلنا إليه بعد شهر ونصف على انطلاق الشرارة الأولى فإننا نجد أن رأس النظام ، الطاغية قد فر بجلده مما أنقذه إلى حين من مصير عبد الإله في العراق عام 1958 كما فر البعض من أفراد عصاباته المافوية واعتقل آخرون... وتزعزعت بهروبه وانتصار الثورة كل ما أنشأه من أجهزة تحكم فيها طوال عقدين من الزمن وانهار بعضها انهيارا كاملا..باختصار كان هناك رأس النظام، وأجهزة النظام، والجماهير التي ثارت والتي تجسد الوطن بعظمته ونقائه وتاريخه ومستقبله . يقول مثلنا الشعبي (إذا سقطت البقرة تكاثرت السكاكين من حولها )... والسؤال الآن هو من هي هذه البقرة التي سقطت؟ هل هو الطاغية أم مؤسسات النظام الذي أقامه أم الوطن؟ وبتحديدنا للإجابة يتحدد مسار الثورة وما تفضي إليه من نتائج ومن تحقيق للأهداف. فإذا كانت «البقرة» هي الطاغية وزبانيته فقد سقط وسقطوا والسكاكين مستلة على من قبض عليه وستظل مسلولة إلى أن يتم القصاص من الفارين بحجم ما اقترفوه من جرائم... وإذا كانت «البقرة» هي النظام الذي أقامه الطاغية فان توزعه على كامل المفاصل في البلد يتطلب جراحة بالمنظار والمشرط تشمل الكل من الحزب الذي كان حاكما مرورا بالبرلمان ووصولا إلى العمد ولجان الأحياء كما نسميها وتشمل هذه الجراحة قيادات الهياكل الوطنية نفسها التي ملأت الطاغية وسارت في ركابه بما في ذلك «أحزاب المعارضة» التي تلقت منه الدعم وساهمت في تلميع صورته ردها من الزمن... ولا شك ان جماهيرنا الواعية التي صنعت المعجزة قادرة على إجراء هذه الجراحة بما تتطلبه من معرفة وصبر.فلا يمكن أن نلغي وجود برلمان (ولا اعني البرلمان الحالي بل البرلمان كهيكل تشريعي) بل علينا أن نعرف من سينال عضويته وهذا قادم ..ولا يمكن أن نلغي اتحاد الفلاحين مثلا كهيكل لان قيادته فرضها النظام المقبور..ولا يمكن أن نلغي أحزاب المعارضة المعترف بها لأنها تلقت يوما ما دعما من الطاغية وساهمت في تلميع «ديمقراطيته» الزائفة ..أما الوطن فلا يمكن إطلاقا أن يكون «البقرة» التي سقطت بل هو البقرة التي تغذي أبناءها وهو الحضن الذي نلجأ إلى دفئه وهو التراب الذي تقر عيوننا ونحن نستزرعه أو يوارينا ثراه... من هنا لا شك أن جماهيرنا الواعية الصادقة تدرك بعد إسقاط الطاغية وفيما تستمر عملية الجراحة أن الوقت حان للانطلاق في العمل الدؤوب من اجل بناء الوطن كما نريده ونحب أن نراه... فالمزارع يجب أن تدر الخير من جديد وبسرعة..والمصانع يجب أن تدار عجلتها وبأقصى طاقة حتى نحافظ على ما توفره من مواطن رزق وفي إطار من السلم يريح نفوس المستثمرين من أبناء الوطن ومن الأجانب بل يحفزهم لمزيد الاستثمار..والدراسة يجب أن تستأنف حتى لا يخسر مليونان من أبنائنا سنة ثمينة من عمرهم ..وإذا كانت المسيرات عاملا ايجابيا وضروريا لإبلاغ أصواتنا فانه ليس من المنطقي أن نفرغ مستشفى من إطاراته وقد حصل للأسف أو نوقف النقل العام فنحرم آلاف الناس من سهولة التنقل من اجل لقمة العيش وقد حصل للأسف... المطالب النقابية مشروعة ما في ذلك شك لكنها يجب أن تتأجل إذ أن من يحصل على راتب في هذا الظرف مهما كان دون الحق أفضل بكثير ممن لا يملك راتبا بل ولا يملك ما يقيم به أود عياله... لقد أطلق شرارة الثورة من لا يملك قوت يومه وانضم إليه من لا يبيت على الطوى فلتكن وقفة من يملك الآن مع من لا يملك وبذلك يستمر هذا التضامن الرائع واللحمة المتينة بين كل الفئات والجهات... إن تنظيم قافلة إعانة من جهة تملك إلى جهة لا تملك أفضل ألف مرة من مطلب مشروع لتحسين رواتب مهما كانت متدنية في انتظار أن نعبر مرحلة استمرارية الثورة بسلام ...هذه الثورة سالت فيها دماء زكية لشهداء بررة وعلينا الآن أكثر من أي وقت مضى ضمان الاستمرارية المطلوبة بمزيد من العرق ومزيد من الجهد وقليل من الصبر..فشهداء ثورتنا أحياء عند ربهم يرزقون وهم ينتظرون منا أن نحول دماءهم إلى خير للوطن وإذا ما سرنا في غير طريق البناء نكون قد نسينا دماءهم... وإذا كانت ثورتنا قد أصبحت مضرب مثل وإعجاب لدى كل مقهور فإنها محل تخوف من كل الطغاة ومن كل عاصمة تحميهم ولا شك أن هؤلاء الطغاة وحماتهم يتمنون بل ربما يدفعون إلى أن تسير ثورتنا إلى الفوضى والفشل حتى تفقد بريقها وتنقلب من المثل الناصع إلى الصورة السيئة ..ولا نشك لحظة أن جماهيرنا بوعيها وصدقها وطاقاتها قادرة على تحقيق أهداف ثورتها وإحباط آمال كل من يسعى أو يتمنى انحرافها لا سمح الله.