تحية للمصور الفوتوغرافي التونسي الفرنسي جلال القسطلي على شجاعته كمثقف ومبدع حين بادر بإرجاع لقب التكريم الذي تسلمه في الصائفة الماضية من يد وزير الثقافة الفرنسي فريدريك ميتران احتجاجا على موقف الوزير الفرنسي للثقافة الإيجابي من نظام بن علي رغم اعتذاره في إحدى المجلات التونسية وموقف الحكومة الفرنسية على لسان وزيرها ميشال آليو ماري يوم اندلاع الثورة في تونس ( أنظر جريدة لوموند 25 جانفي 2011)... ولعلّ هذه الحركة التي قام بها القسطلي تعبّر عن ذلك الوعي الحاد الذي يجب أن يتحلىّ به المثقفون والفنانون التونسيون تجاه بلدهم , خاصّة إذا ما تعلق الأمر بلحظة تاريخية فارقة مفصلية هامة كالتي تمثلها ثورة تونس المعجزة. الحركة ذاتها تجعلني أستحضر بعض الصور لمسلسل هذه التكريمات التي تقوم بها السفارة الفرنسية تجاه نخبنا في الثقافة والفنون والآداب. وأكاد لا أفهم كيف يكون المبدع وهو ضمير أمّته التي ينتمي إليها فارسا لنظام الفنون والآداب (L'Ordre des chevaliers des arts et des lettres françaises) في الدولة الفرنسية , , وهو لقب يحيلنا في الثقافة الفرنسية على معجم الفروسية القروسطية من أدبيات الحروب الصليبية إلى فرسان المعبد الكاثاري وصولا إلى فرسان مالطا... بل لا أفهم كيف يقبل هذا المبدع أو ذاك بمثل هذا اللقب وذاك النيشان القصديري يتسلمه في سفارة فرنسا في تونس من وزير الثقافة الفرنسي وبحضور السّفير المقيم وبمباركة وزير الثقافة التونسي وفي مقرّ الإقامة الفرنسية في الضاحية الشّمالية ضمن ذلك الموعد الطقسي الذي تقيمه السّفارة الفرنسية في فصل الصّيف. ولا أفهم نوعا من المثقفين والمبدعين التونسيين المتباهين بهذه النياشين وتلك الألقاب التي لم يمنحها رئيس الجمهورية الفرنسية باسم الشّعب الفرنسي كما حدث مع السيدة فيروز أو السيدة أم كلثوم , بل تمنحها الخارجية الفرنسية. غير أنني في نفس الوقت أتفهم الدولة الفرنسية وهي تعترف وتكرم المبدعين في تونس فذلك أمر متعلق بالسّياسة الخارجية الفرنسية وأجندتها في تحقيق موطئ لها في تونس من خلال استعطاف مثقفيها ومبدعيها الذين قد ترى فيهم وهي تكرمهم موالين لها ومنتصرين لدورها في البلاد. فرنسا التي لم تفصل في أي وقت من الأوقات منذ حكم بونابرت المسألة الثقافية عن مسألة شؤونها الخارجية سواء في الفترة الكولونيالية أو ما بعدها في علاقتها التقليدية مع مستعمراتها القديمة. والواضح أن تكريم نظام الفرسان في الفنون والآداب الذي تم استحداثه عام 1957 في عهد الجنرال شارل دي غول ينصّ قانونه و يقرُّ «في خطوطه العريضة أن الحكومة الفرنسية تمنح هذا التقدير للمواطنين الفرنسيين الذين يحترمون القانون المدني الفرنسي والذين قد ساهموا بشكل بارز في إثراء الإرث الثقافي الفرنسي وأن هذا التمييز يمكن أن يشمل بعض الشخصيات الأجنبية». كما تعرف موسوعة ويكيبيديا هذا التمييز كالآتي «إن نظام فرسان الآداب والفنون يجازي الشخصيات المتميزة في مجال الإبداع الفني والأدبي أو الذين ساهموا في إشعاع الفنون والآداب الفرنسية في فرنسا أو في العالم». وبناء على هذا التعريف لا يكاد يخرج هذا التكريم من رهانات الحكومة الفرنسية من خلال أهداف سياسة الثقافة الفرنكوفونية بوصفها تركة تسهر على ربط فرنسا وجدانيا بمستعمراتها القديمة على المستوى اللغوي والثقافي والرمزي بشكل عام وكلها رهانات يحسب لها حساب في دائرة السياسة الخارجية الفرنسية ولا أدري إذا كان الأمر معمولا به في الجزائر وعلى أرض الجزائر. وبناء على هذا تكون نخبة مثقفينا ومبدعين قد تمّ تكريمهم لأنّهم ساهموا في إشعاع الثقافة الفرنسية خارج فرنسا , ويتعين عليهم بموجب ذلك على الأقل على المستوى الرّمزي أن يكونوا تابعين لهذه الثقافة. والملاحظ أن قائمة المكرمين التونسيين بهذا التمييز طويلة وتحتضن خيرة فنانين البلاد والمسؤولين عن قطاعات ثقافية حيوية في القطاع الثقافي. ونذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر: محمد إدريس ( مدير المسرح الوطني ) فاضل الجعايبي توفيق الجبالي جليلة بكار زينب فرحات أنور براهم المنصف شرف الدين (مؤرخ مسرحي) سامية القمرطي (مديرة سابقة للمكتبة الوطنية) محمد العزيز إبن عاشور (وزير الثقافة السابق) النوري بوزيد سهام بلخوجة (راقصة كورغرافية ومديرة معهد خاص للسينما) لطفي البحري (منشط تلفزيوني) عائشة القرجي (صاحبة رواق للفنون التشكيلية) عائشة بن عابد (باحثة في الآثار) درة بوشوشة (مديرة أيام قرطاج السينمائية) لطيفة مقدم (مسؤولة في معهد التراث) إيمي جاك بيراز (مصور فوتغرافي سياحي) ليلى السّبعي (باحثة في الآثار) ماريان كاتزاراس (شاعرة ومعلمة للغة الفرنسية بالمركز الثقافي الفرنسي) فريال لخضر ( رسّامة) درّة بوزيد (صحفية مختصة في صفحة المرأة في مجلة حقائق) مريم بودربالة (فنانة تشكيلية)... وبناء على هذا وفي هذه الظرفية التاريخية المفصلية التي تمثلها الثورة التونسية نهيب بهؤلاء المبدعين أن يعيدوا شهائد هذا التكريم كرسالة رمزية لموقف الحكومة الفرنسية التي نافقت نظام بن علي الفاسد... ونهيب بهم من خلال هذا المنبر أن يعيدوا تلك النياشين وقوفا منهم مع الثورة التونسية. أدرك تمام الإدراك أن كلامي هذا قد يفسد للوّد والصداقة وقلة ضئيلة منهم أصدقائي شيئا من وشائجه ولكنني أرى في هذه النخبة من الذين ساهموا في النضال من أجل الحرية والمواطنة في تونس خاصة من المسرحيين طوال عقود أنهم أعلى من النياشين. وقد يحمل كلامي هذا أيضا تعبيرا عن عداء سافر للفرانكفونية العزيزة على قلوب البعض , أو تحاملا على بعض الأسماء , فهذا الأمر متروك للنوايا نحمله على حرية النقد والتعبير الذي نحلم بتأسيسها ونعمل من هنا فصاعدا على تحقيقها , لكن الثابت بالنسبة لي أن العداء للفرانكفونية موقف سياسي بالقدر الموقف الذي تجلىّ في الشّعار الذي نادى به الشباب والنخب وبقية التونسيين أمام وزارة الداخلية يوم 14 جانفي حين صرخوا : «Sarkozy complice , Ben Ali assassin». وبناء عليه يُغيضني أن ترى فرنسا في الثقافة التونسية وفي ضمائر مثقفيها غير تلك الصورة التي يلخصها شعار «تونس ترقص وتغني» أو «موسما تونسيا» يكتب فصوله فرديريك ميتران الحالم بمقام البارون ديرلانجي. أما الذين راكموا أوسمة الدكتاتور الهارب والذين تقاطروا على القصر أو الوزارة بمناسبة ما يسمى بيوم الثقافة كيوم بروباغندي فليلقوا بها في القمامة لأن بن علي ونظامه الثقافي الفاسد منح الأوسمة لمن هبّ ودبّ... وهذا موضوع آخر.