ما أحسن حظّ الشعب التونسي. لقد عثر بسرعة على توازنه، واستعاد مرحه وروح الدّعابة التي غابت بسبب عقدين من الكبت وكتم الصّوت. ها هو اليوم يسخر من حكّامه القدامى، ويستنبط من مثالبهم ، بل و من عسفهم الظالم، آلاف الحكايات السّاخرة، والدّعابات المضحكة. وقد أبدع شبّان الانترنات في ذلك وتفنّنوا. ففي احدى الصّور المركّبة أظهروا زعيمهم « الأوحد» السابق وعلى رأسه شماغ سعودي وعقال، وأنبتوا له لحية كثّة، وسمّوه «الهاجّ»، ومعه « حلاّقة تونس الأولى» ترتدي حجاب المتديّنات وسمّوها «الهاجّة». ولا تخفى هنا احالة الزّيّ المستعار على مكان لجوء الزّوجين الهاربين، كما توحي الكلمتان بمعنى « الهجّة»، أي الفرار والهروب. تلك صورة مما تفنّن شباب ال«فايس بوك» في إبداعه، متابعة لنتائج الثورة وآثارها، مقتفين آثار موسيقيي الرّاب الذين سبقوهم بقصائد لاذعة ناقدة للنظام البائد، محمّلين اياه جريمة اهتراء الدولة، وما أصاب الناس من ظلم بن علي وأتباعه. الا أنني لم أشاهد، ولم أسمع تنكيتا أو تبكيتا لبقية أعضاء «القبيلة البنعليّة» الفاسدة، ربّما لانصباب الهمّ الأوّل على الكبير الذي علّمهم السّحر، وأطلق أيديهم ليفسدوا في الأرض كيفما شاؤوا، وكأنه يقول لهم المثل الشعبي: «الدّار دار بوكم، والناس ما يسالوكم»، أو لعله قال لهم: «هذا هنشير ورثتو عن الوالد، فاسرحوا فيه وامرحوا» ليتفصّى في آخر أيام حكمه من المسؤولية وحكم التاريخ بكلمة «غلّطوني» البسيطة، المتبرّئة من الخطإ. أحد الذين لم يصلهم الاستهزاء بعد، ذلك الطرطور الشّابّ، صهر الرئيس الهارب، ذلك المتسلّق الشّبيه بشخصية «طرطوف» المتظاهر بالورع وهو يخدع الناس بالسبحة، على قول المثل الشعبي، أو كما في وصف الشاعر : خرج الثعلب يوما في ثياب النّاسكينا لقد أنشأ هذا الانتهازيّ بنكا ليغطّي سرقاته وتحيّلاته برداء اسلامي، ويغلّف «مرابحاته» الرّبويّة برداء دينيّ، و أرسل على الناس راديو «زيتونته» غير المباركة لينصح وعّاظها بسطاء القوم بالهدوء والاستكانة الى المقدّر والمكتوب، والرّضاء بالقليل (فان خير الزّاد التقوى) ولتنصحهم بالتّواكل(فمن يقرأ سورة كذا ثلاثا قبل النّوم كفاه الله شرّ الفقر الى يوم القيامة). فهل رضي هو ذاته بالقليل، ألم يلتهم كل شيء؟ لماذا لا يقرأ هو السورة قبل النّوم ويكفي النّاس شرّ نهمه المفرط ؟ لكنه كان يأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه ، كما تقول الآية . ما زال الناس يجهلون مصادر ثروة الصهر الملياردير، فلو عصرنا أهله عصرا لما جمعنا ربع ما صرفه يمينا وشمالا كأوراق اللعب. نعم.. يخيّل لي أحيانا أن الفتى كان يلهو ويلعب كطفل مدلّل، حتى وهو يخطب في مجلس النوّاب. وقد تألّمت لحاله لما رأيته في لقطة ساخرة يدافع عن حماه في جلسة ما قبل السقوط، ويلوك مفرداته في مأمأة وتأتأة يرثي لها القلب الرّحيم. روى لنا أحد المدعويّن الى مأدبة ذبحت فيها الذّبائح احتفالا بدخول الصهر الظريف الى اللجنة المركزيّة للتّجمّع، أن الرّجل أراد شكر الحاضرين فلم تسعفه اللغة، ولا أطاعه اللّسان، فهبّ كبير مستشاري الرئيس المكلّف باسناد عوده الطريّ يعتذر عنه بشدّة التأثّر، ويكمل الخطاب نيابة عنه . ستضحك الأجيال القادمة أننا سمحنا لأكذوبات كبرى أن تتمعّش من غفلتنا، وتتضخّم بامتصاص دمائنا كالعلق، وتنهب ثروات شعبنا وكدّه، دونما حياء، أو خوف من الله. بل وأحيانا باستعمال اسم الله ذاته، وصرف آياته المنزّلة في الحقّ الى تبرير الظلم والباطل . أتذكّر أنه حين ساءت صحّة الزّعيم بورقيبة في السبعينيّات، وتكالب الطّامعون على خلافته، أصابنا خوف من مصير مجهول. و كان يكثر من التردّد على حكومتنا أيامئذ رجل عريض غليظ الرّأس (يدعى قايد أحمد فيما أذكر) هو أمين جبهة التحرير الجزائرية. وقد تقرّب من وسيلة بورقيبة، فوثقت به الى درجة أن أخذت عليه التزاما كتابيّا بأن تتدخّل الجزائر لانقاذها هي وبورقيبة اذا انقلبت الأحوال وهدّدا في حياتهما. أوردت هذا الخبر السرّيّ مجلة «جون أفريك»، فأصيب أغلب التونسيين باحباط كبير، وأحسّوا بالذّلّ والمهانة، وبأنهم جزء من «هنشير الوالد» يبيعه الورثة أو يرهنونه برغبتهم، وأنّهم ليسوا الاّ «خمّاسة» يسكنون هذا الوطن على سبيل الفضل والمعروف . يا أهل تونس الغد، هل ترضون أن يعاد عليكم مثل هذا ؟ ان كنتم ترضون، فلستم جديرين بالحياة .