رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مزاد دولي يبيع ساعة أغنى راكب ابتلعه الأطلسي مع سفينة تايتنيك    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد بعد دعوته لتحويل جربة لهونغ كونغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خالد عبيد يكشف ل «الشروق»: مدبروا المحاولة الانقلابية عام 1962: هل خانوا الوطن أم بورقيبة ؟
نشر في الشروق يوم 14 - 02 - 2011

كنت أكتب ولازلت في الصحافة التونسية عن الذاكرة الجماعية للتونسيين منذ سنة 1991 وذلك بحكم اختصاصي، وفي الواقع، لم تكن هذه المسألة هيّنة بالنظر إلى التجاذبات من هنا وهناك لأنّ ذاكرتنا مثخنة وتعرّجاتها كثيرة، ومن الصعب جدّا للمؤرّخ الذي يحاول أن يكون صادقا مع نفسه ويكتب ما يشعر به حقيقة إذّاك دون تحامل أو دون صبّ الزيت على النار وفق قناعاته البحثية وبعيدا عن الحزازات والموروثات العُقَدية التي لا مكان لها في ميدان التاريخ، قلت من الصعب للغاية أن يرضي هذا المؤرّخ الكلّ، لأنّ هذا الكلّ المتشيّظ يقدّم نفسه على أنّه حافظ الذاكرة كلّ من موقعه ووفق موروثه الجماعي وعلى وقع القناعات والتوجّهات.
لذلك، تجد نفسك محاطا بتصنيفات متناقضة أحيانا فإذا ما تحدّثت عن المسألة اليوسفية والزعيم صالح بن يوسف وأنصاره وأفضت في ذكر معاناة هؤلاء الوطنيين وما تعرّضوا إليه من غُبْن وظلم، تجد نفسك منعوتا باليوسفية، وإذا ما تحدّثت عن الزعيم الحبيب بورقيبة وعن مواقفه ..بتَّ بورقيبيًا، وإذا ما تحدّثت عن معاناة العراق وأهله خاصّة سنة 2006 أصبحتَ قوميا وحتّى بعثيا، وإذا ما تحدّثت عن الاتصالات السرّية بين الحكومة التونسية واسرائيل حتّى منذ ما قبل أن تستقلّ تونس، ترى نفسك صهيونيا من حيث لا تدري أو مستهدفا لمحاكمة محتملة لأنّك شهّرتَ بعلاقة خفيّة لشخصية ما مع الكيان الصهيوني....
أقول هذا كي أبيّن أنّ مهمّة المؤرّخ في توجّهه للتونسيين ليست بالأمر السهل والهيّن كما ذهب إلى ظنّ البعض هذه الأيّام، فالمؤرّخ ذاته كان مستهدفا ولم يكن من السهل عليه تمرير مقالاته في الصحف والمجلاّت التونسية، لكن هذا كلّه جزء من مهمّته وعليه تجشّم هذه الصعاب متسلّحا بموضوعيته وترفّعه عن الغوغائية وابتعاده عن الأحكام القِيَمية.
وإنّي أعتقد وبلادنا تعيش أحداثا استثنائية أنّ الشعار الذي رفعته وطالبت به سرّا وعلنا لم يعد قائما فحسب بل بات ضروريا ومؤكّدا، إنّه شعار «المصارحة والمصالحة»، إنّه من الضروري أن يتصالح التونسي مع ذاكرته وأن نلملم كلّ الجراح منذ الفترة الاستعمارية وإلى الآن، بغاية تضميدها حتّى يتّعظ الجميع فلا تتكرّر المآسي التي تعرّض إليها التونسيون، لأنّ كلّ من يدعو إلى الإقصاء وإلى الاجتثاث هو الذي يُجتثّ بينما «ضحيّته» هي التي تبقى ويبقى جُرْحها مدْموما في الذاكرة الجماعية.
على كلّ، ثمّة مقال كتبته أيّام كنت أتعامل مع مجلّة «حقائق» التونسية ما بين أفريل 2007 إلى حدّ أفريل 2008، وتحدّثت فيه عمّا عُرف تاريخيا باسم «مؤامرة ديسمبر 1962»، أعترف أنّني لم أكن متشجّعا كثيرا لكتابته بالنظر إلى حجم الضغوطات التي كانت مسلّطة على هيئة تحرير حقائق آنذاك والتي كان يرأسها الصديق قيس بن مراد جرّاء محاولة الحفاظ على هامش ولو بسيط من الاستقلالية الصحفية، فتتالت النُذُر من اعتقال الصحفية مبروكة خذير في منطقة الحوض المنجمي ومن التضييق على الصديق الشاذلي بن رحومة في كتاباته وضرورة التأشير عليها هي بالذات بالنظر إلى كتابته في الشأن «الوطني»....ومن التبرّمات والمكالمات و..و..بسبب بعض مقالاتي.
وفي الأخير، كتبته وحرصت أن يكون جاهزا قبل حلول ذكرى استقلال تونس في 20 مارس، لكن تلقّيت مكالمة من قيس بن مراد يوم السبت 01 مارس 2008 على الساعة الواحدة والنصف ظهرا، كان مضطربا وأعلمني بأنّ العدد رقم 57 للمجلّة قد صُودر ورجاني أن آتي حالا إلى مقرّ المجلّة، فما كان منّي إلاّ أن توجّهت إلى هناك على جناح السرعة ومعي الشاذلي بن رحومة، فوجدت الجوّ مشحونا وأعلمني قيس بن مراد والطاهر ساسي بأنّ مقالي عن المؤامرة قد أغضب كثيرا ساكن القصر الرئاسي فأمر بمصادرة العدد وحرقه كلّيا، وأنّ وزارة الداخلية وافقت في البداية على صدوره لكن دون الإعلام عنه في الغلاف الخارجي للمجلّة إلى أن صدرت التعليمات من القصر بالمصادرة والإتلاف، عندها شعرْتُ بالضيق الذي سبّبته لهيئة التحرير آنذاك خاصّة لمّا أعلمتني حسب ما بلغها بأنّ البوليس السياسي سيقوم باعتقالي أو استنطاقي على خلفية هذا المقال، فما كان منّي إلاّ أن رجعت إلى المنزل على عجل وحذفت ما أمكن لي حذفه من حاسوبي الخاصّ وأوصيت زوجتي خيرا بأولادي إن تمّ اعتقالي.
قبل ذلك، بقيت مع هيئة التحرير للحظات وهي تحاول جاهدة النظر في إمكانية إصدار ذات العدد للعموم دون احتوائه لمقالي، وهذا ما تمّ فعلا، لكن، لم تكن المجلّة على ذمّة القرّاء إلاّ بعد أكثر من يومين من التأخير.
ومنذ ذلك التاريخ، اشتدّت الحملة على هيئة تحرير المجلّة وكنت شاهدا على بعض أطوارها والظاهر أنّ التعليمات الخفيّة صدرت بعزل هذه الهيئة «المارقة» عن الصفّ إثر مصادرة العدد، وهذا ما تمّ فعلا، إذ اضطرّ قيس بن مراد اضطرارا إلى تقديم استقالته، و»لحق» به الطاهر ساسي على عجل كما الشاذلي بن رحومة ثمّ التحقت بهم مبروكة خذير وعبد السلام بن عامر..وخرج كلّ القدامى إلاّ رضا الملّولي.
ولم أجد بدّا أن أقدّم استقالتي كتابيا من هذه المجلّة بعد أن أدركت أن لا مكان لي فيها وخاصّة لمّا شعرت بألم كبير انتابني جرّاء شعور بالذنب لأنّني كنت وراء قطع أرزاق بعض من تعاونت معهم في هذه المجلّة بكلّ إخلاص وحميمية، وتعاظم شعور الألم لديّ عندما رأيت كيف تمّ التعامل مع سي الطاهر الهمّامي - الذي ربطتني به علاقة متينة أيّام كنت أكتب في هذه المجلّة التي سبقني إليها بسنوات ونال محبّة فريقها، وكنت معجبا بصفحته التي يكتبها وكنّا نتبادل الأفكار ونتناقش-، إذ أُطرد من المجلّة وكان وقع هذا الطرد عليه كبيرا إلى حدّ قرب إجهاشه بالبكاء، وهو المحاصر في كلّ مكان فكان أن أُكمل عليه الخناق.
رحم الله المناضل الطاهر الهمّامي، لقد كان نخلا واقفا شامخا لم ينحن، أطردوه من الجامعة عندما بلغ سنّ التقاعد ولم يمنحوه شرف مواصلة تأطير الطلبة، وحاصروه وضيّقوا عليه، إنّه شهيد القمع الخفيّ، إنّه مثال لما يعانيه الجامعي اللامتهافت، لقد مات وهو في أوج العطاء لأنّ بدنه لم يعد قادرا على تحمّل ما تحمّله من محاصرة وتهميش..أعترف أنّ موته المفاجئ كان صدمة حقيقية لي، لأنّني ومنذ تاريخ مصادرة المقال، صدرت التعليمات الخفيّة بحقّي، ولم يأتني البوليس السياسي بل عوّضته هذه التعليمات المعروفة، فكان أن بدأت حملة مسعورة تجاهي لاستهدافي ومحاصرتي وتضييق الخناق عليّ وتشويهي بكلّ التهم الممكنة والمسّ حتّى من سمعتي، بدأت هذه الحملة وطالتني أنا وبعض زملائي الجامعيين ممّن تمسّكوا ولا زالوا باستقلالية الجامعة وضرورة الحياد بها عن التجاذبات السياسية والأهواء الشخصية..وكنت أتذكّر دائما الزميل المناضل الطاهر الهمّامي طوال هذه المحنة وأستحضر معاناته عندما كنت أعاني مع زملائي تحت وطأة الحصار والتشويه في الجامعة، هذا الحصار والتشويه الذي قرّرته أطراف متنفّذة خارج الجامعة لديها ارتباطات بقوى مهيمنة لا قبل لأحد بها آنذاك ونفّذته للأسف الشديد «أدوات» جامعية سعت بكلّ جهدها من أجل إحالتنا على مجلس التأديب وطردنا من الجامعة وقطع أرزاقنا، ولا زال هذا الحصار والتشويه متواصلا بقوّة إلى حدّ اليوم داخل أسوار المعهد وخارجه، وأرجو من كلّ قلبي أن لا تضطرّني هذه «الأدوات» الجامعية إلى كشف المستور وفضح التجاوزات بما فيها العلمية والمعرفية والتي نحتفظ بمؤيّدات عنها.
وهنا، نخصّ قرّاء «الشروق» بهذا المقال المصادر كما هو، مع التأكيد بأنّ استعمالنا للفظ «المؤامرة» أو «المتآمرين» لا يعني تبنّينا لدعاية تلك الفترة، بل هي تأتي في سياق تاريخي فقط، ومن هنا حرصنا على وضع هذا اللفظ بين ظفرين، كما أنّ فشل هذه «المؤامرة» راجع إلى وشاية قام بها أحد الضبّاط الصغار لمّا تمّ إعلامه بتوقيت الانقلاب.
وإنّي أعتذر من كلّ قلبي للصحفيين المذكورين الذين تحمّلوا مسؤوليتهم معي وساندوني وقبلوا ما حلّ بهم من عنَتٍ وضيقٍ، وإلى حدّ هذه الساعة، لم أفصح عن حيثيات هذه الواقعة وملابساتها إلاّ للمقرّبين جدّا منّي، وأعتذر أيضا لعائلات المناضلين والشهداء الذين لم أتمكن في هذا المقال المصادر من ذكرهم أو الإفاضة في الحديث عنهم أمثال المرحوم حمادي بن تميم والصحبي فرحات الذي كان عضوا باللجنة التنفيذية لحزب الدستور القديم وأحد مؤسسي الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946، والذي توفي في كرّاكة غار الملح (سجن سيّء الذكر بهذه البلدة)، ومحمد العربي العكرمي أحد قادة المقاومة ضد الاستعمار، وغيرهم كثير...
أخيرا، حاولت من موقعي أن أبقى دائما ذلك الجامعي الذي التزم بأن يكون قلمه على ذمّة ذاكرة التونسيين رغم هذه الاحباطات والمحاصرة والتشويه، ولم ينقطع قلمي أبدا منذ ذلك التاريخ ولن ينقطع...
وللحقيقة، لقد صدرت عدّة مقالات وشهادات طيلة العهد السابق عن هذه «المؤامرة» وتفاصيل ضافية عنها ولم تُصادر أو تُمنع، باستثناء هذا المقال، وهذا ما يطرح تساؤلا مشروعا: ماذا يتضمّن هذا المقال من معلومات ومن مواقف كانت وراء مصادرته وإتلاف المجلّة؟
أترك الإجابة إلى القرّاء الأعزّاء.
هالني ما استمعت إليه في مسامرة تناولت تقديم كتاب أحد المناضلين الوطنيين الصادقين، على لسان أحد الحضور ممّن يعدّ نفسه من المناضلين الصادقين والمخلصين أيضا، والذي لم يتورّع في نعت الأوّل ب»العقوق» الوطني وبأنّه «خان» الوطن والحبيب بورقيبة، عندما انضمّ إلى «المؤامرة» اليوسفية الأولى سنة 1955 فمؤامرة 1962 الفاشلة التي كانت تنوي الإطاحة بالرئيس الحبيب بورقيبة.
وبتّ أتساءل في نفسي هنا من هو الصادق فيهما يا ترى؟ وهل ضرورةً أن نستعمل هذه الألفاظ للدلالة على موقف ما تجاه هذا أو ذاك؟ وما الذي جرّنا نحن أصلا لاستعمال أمثال هذه الألفاظ؟ وهل نحن ما زلنا نجترّ «أحقاد «الماضي وإلى هذا الحدّ وإلى الآن؟ إلى درجة تموقع البعض من هنا وهناك لنثر شهائد الوطنية وآيات الإخلاص للوطن إلى هذا أو ذاك! وتعريتها من هذا وذاك باسم خيانة زعيم أمّة أو عفوا خيانة وطن!
وحدّثت نفسي أكثر فقلت لها: ألم يكف هذا المناضل الوطني الصادق الذي ترنّح الآن على وقع السنوات الثقال من عمر يحمله معه حتّى «يُخوّن» مجدّدا؟ ألم تكفه معاناته وتضحياته من أجل استقلال بلاده، ثمّ معاناته من أجل تبنّيه لموقف زعيم وطني في حجم صالح بن يوسف بقطع النظر عن الدوافع التي حدت به إلى مُناوءة الحبيب بورقيبة، فالمسألة هي مسألة اجتهادات بين طرفيْ الحزب الدستوري الجديد، بين أبناء الحزب الواحد، بين الأسرة الدستورية الواحدة، بين المناضلين أنفسهم، وليس المجال هنا للإفاضة في هذا الجانب الذي سبق لنا أن تطرّقنا إليه أكثر من مرّة، لكن ما لا يمكن استساغته حاليا وقد مرّ حوالي نصف قرن على الانشقاق الدستوري الكبير سنة 1955، والذي كاد أن يؤدّي بالبلاد التونسية إلى أتّون حرب أهلية مدمّرة عاشت البلاد زمنئذ على وقع بداياتها، هو أن يتواصل هذا الانشقاق لكن بأسلوب آخر يمدّده كي يتراءى لدينا وكأنّه حدث اليوم أو التوّ، إنّه الانشقاق الذاكري الذي استفحل بالنفوس فباتت أسيرة هوْس ماض نرجو من كلّ أعماقنا أن نتجنّبه وإلى الأبد، إنّه ذلك الماضي الذي سُفك فيه الدم التونسي «رخيصا» من أجل اجتهادات في التوجّه المسيري لحركة تحرّر وطني، باتت على أبواب تكوين جنيني لدولة ذات سيادة غير واضحة المعالم كثيرا في أذهان العديد ممّن انهمك في هذا التيّار التدحْرجي.
خطر الانشقاق الذاكري
نعم، إنّ هذا الانشقاق الذاكري مازال متمكّنا بنا ويكمن خطره في أنّه ينفث تجلّياته في أذهان أجيال لم تعايش هذه الفترات العصيبة من تاريخنا الوطني، وليس لديها ما يؤهّلها للتمييز بين هذا أوذاك أو معرفة بعض حقيقة ما حدث إذّاك، بطريقة هادئة وموضوعية بعيدة عن أحقاد الماضي.
إنّ هذا الانشقاق الذاكري يتحكّم به من يعتبر نفسه هو الذي انتصر في بداية الاستقلال وأجهز بالتالي على من تجرّأ وعارض الزعيم الحبيب بورقيبة، وما دام ذلك كذلك فمن الطبيعي أن توزّع صكوك الوطنية واللاوطنية وفق رؤية المنتصر، ومن البديهي أن يلوح هذا المناضل الدستوري الذي نهل من حياض الحزب منذ الثلاثينات من القرن الماضي، وتحمّل آلام سجن المستعمر وضحّى بشبابه من أجل هذا الوطن، حتى يراه مستقلاّ حرّا لا يعلو فوق سمائه سوى علم بلاده في صورة «اللاوطني» و»الخائن»، ما دام قد اختار أن يعتنق طروحات صالح بن يوسف، بل وزاد من «جُرْمه» الوطني عندما شارك في «مؤامرة» سنة 1962!
لا أخفي سرّا عندما أقول إنّ ما حدث هو الذي دفعني إلى كتابة هذه الأوراق هنا، فأنا لا أنتمي إلى جيل عايش الخلاف البورقيبي اليوسفي كما المحاولة الانقلابية لسنة 1962، لكنّني تلقفت بعض مظاهرها من خلال تجلّياتها الذاكرية، فقد كنت أستمع في صغري إلى أحاديث عن بعض الأهوال التي حدثت خلال فترة الخلاف وكيف أنّ رجلا احتمى داخل خزانة خوفا من أن يلقوا عليه القبض فكان أن أقيم عليه حائط وإلى الأبد....كما استمعت إلى أسماء الأزهر الشرايطي وكبيّر المحرزي...في مؤامرة 1962 وكيف لقيا «جزاء» ما اقترفاه هما و»عصابة» السوء التي حاولت اغتيال المجاهد الأكبر! !
وهنا ألفيت نفسي مدفوعا للغوص في هذا الموضوع بحكم مهنتي، محاولا أن أفهم دوافع اعتبار مؤامرة 1962 أعلى مراحل «الخيانة الوطنية» إذّاك، والظاهر كما أسلفنا أنّ هذا الشعور مازال مستحكما لدى بعضنا لا بل ويلقنّه إلى من حوله!
«المؤامرة»: أعلى مراحل «الخيانة» الوطنية؟!
وقد مكّنني انكبابي على صحف تلك الفترة من معرفة بعض ما حدث، أو لنقل من معرفة كيف ولماذا لُبّس هؤلاء المشاركون في المؤامرة رداء «التخوين» الأقصى دون أن يدْروا، فباتوا ينتظرون قدرهم المحتوم مستسلمين ولا حول لهم ولا قوّة.
لقد كانت الحملة التي شُنّت على هؤلاء «المتآمرين» أعنف من أن أصفها هكذا، فقد هبّت البلاد التونسية كلّها من أقصاها إلى أقصاها منذ يوم 24 ديسمبر 1962 تاريخ إعلان اكتشاف «المؤامرة»، تندّد وتشهّر وتحتجّ وتتوعّد وتهدّد وتنادي بالويل والثبور.... وتطالب بل وتشدّد تشديدا وتلحّ إلحاحا وتصرّ إصرارا لامتناهيا على ضرورة الاقتصاص وبلا هوادة وبلا شفقة، وتهاطلت البرقيات من كلّ حدب وصوب كالسيْل المنهمر الذي انقلب إلى طوفان.
وعمّت المظاهرات كلّ البلاد التونسية، وهنا أؤكّد، كلّ البلاد التونسية تقريبا، والتي تنتهي أمام ممثل السلطة والحزب لتقدّم إليهما عرائض المتظاهرين و»الغاضبين» و»المزمجرين» و«المتوثبين»، ولم يتوان التونسيون في الخارج في فرنسا طلبة وعمّالا وديبلوماسيين في الإدلاء بدلْوهم في هذا التسابق التنديدي كما جميع المنظمات «الوطنية» و«الحزبية» و«المهنية»، وحتى «مجلس الأمّة» الذي انتقل بكامله إلى الكاف أين الزعيم الحبيب بورقيبة لتهنئته بالسلامة والتنديد ب«الخونة»!
وكانت كلمة السرّ المتداولة بينهم هي أن يحمدوا العناية السماوية التي «أنقذت» «المجاهد الأكبر» من اغتيال محتوم، فكأنّ انكشاف «المؤامرة» معجزة أو هي فعلا كذلك، كما قال الزعيم الحبيب بورقيبة نفسه ذلك والذي لم يكن يصدّق عينيه أنّه نجا من هذه المؤامرة بهكذا سهولة، كما نجا من قبل في سنين الكفاح ضدّ فرنسا، ولم يتوان الكلّ في إطلاق كلّ ما لديه من نعوت إزاء هؤلاء «المتآمرين» وفي الدعوة الملحّة والمستعجلة بضرورة القصاص منهم دون شفقة ولا رحمة ولا هوادة ! !
وهكذا شُحنت الأجواء وتلبّدت النفوس فتعطّشت لرؤية هؤلاء وقد سيقوا إلى الموت المحتوم، لا بل وبات هاجسها الأكبر هو القصاص «العادل» و«الرادع» حتى قبل أن يحاكموا، وهكذا صدر الحكم على هؤلاء «المتآمرين» قبل صدور أحكام المحكمة العسكرية، فلم يجدوا نصيرا حتى من محامييهم الذين «رفضوا» الدفاع عنهم، فلمّا سُخّر بعضهم، لم يتوان هذا البعض من «الإجهاز «عليهم في المحكمة ودعوة رئيسها إلى «الاقتصاص» منهم وإنزال أشدّ العقوبات عليهم! وكيف لا ينادون بذلك بالرغم من أنّه يُعدّ «تخلّيا» عن أقدس مهامّهم؟ ما دام الكلّ يدعو إلى ذلك حتى عائلات بعض المتهمين لم «تتوان» في إصدار بيانات في الصحف، تتبرّأ فيها من أبنائها لا بل وذهب وفد منها إلى ممثل السلطة لإعلان البراءة من هؤلاء! !
ومن الطبيعي أن يحدث كلّ هذا ما دامت الكلمات المستعملة آنذاك هي من قبيل: «المؤامرة الدنيئة» و«المؤامرة الشنعاء» و«المعتوهين» و«المجرمين» و«المارقين» و«الخونة» و«المتعاونين مع الخارج» و«العصابة الفاشيستية» و«الشرذمة الضالّة» و«ثلّة من ذوي الأطماع السافلة» و«العابثين بحرمة الوطن» و..و..و..الخ، وأيضا، الذين لم يُرقْهم نجاح النظام البورقيبي وسيره على خطى الاشتراكية والتخطيط فكادوا له وها هو كيدهم يرتدّ في نحورهم !
أمام كلّ هذا ماذا بقي لهؤلاء «المساكين» إلاّ أن يساقوا إلى المصير المحتوم غير مأسوف عليهم؟ في ظلّ حفلات غنائية تُعقد هنا وهناك ابتهاجا بنجاة «قائد المسيرة المظفّرة» من الموت!
في الواقع، لم أر إلى حدّ الآن تعبئة «شعبية» و»شاملة» و»هادرة» و»ماحقة» كتلك التي لاحظتها خلال هذه الفترة، ومن البديهي أنّ هكذا حالا لا بدّ من أن يترك آثاره «المدمّرة» في الذاكرة الجماعية للتونسيين، الذين شارك منهم في «المؤامرة» والذين شاركوا في الإجهاز عليها والدعوة للقصاص منهم على حدّ السواء، وقد تجلّت بعض مظاهرها التي تستتر حينا وتبرز حينا آخر كما ذكرت في البداية، لكنّها حتى وإن استترت حينا فإلى حين لا يمنعها من أن تجترّ معها إلينا ذلك الماضي الأليم.
لكن أين الحقيقة من كلّ ذلك؟
يعسر هنا في هذا الحال أن ندرك حقيقة ما حدث، لأنّ هذا قد يكون من المحال حاليا كما سنرى لاحقا.
تشويه متعمّد «للمتآمرين»
والثابت أنّ التشويه الذي لحق هذه المجموعة كان كبيرا جدّا، فلم تكف النعوت التي ألصقت بهم في الاجتماعات والبرقيات حتّى نال منهم «المجاهد الأكبر» في بياناته مثل خطاب افتتاح المؤتمر الثالث للاتحاد القومي للمرأة التونسية في الكاف يوم 26 ديسمبر 1962 وخاصّة خطاب «النصر الأعظم» يوم 18 جانفي 1963 بالقصبة أمام عشرات الألوف من المبايعين الذين احتشدوا لرؤية «المجاهد الأكبر» عائدا من الكاف، التي قضّى فيها أقلّ من شهر بقليل، وذلك بعد أن أسدل الستار على «المتآمرين» بصدور الأحكام عليهم.
ولقد صوّرهم الحبيب بورقيبة، كما الباهي الأدغم من قبله وإن كان أقلّ حدّة منه، في أتعس الصور الممكنة، فمنهم أناس لديهم مرض وعضّوا اليد التي امتدّت إليهم ولم يحمدوا الله على النعم التي مكّنها الحبيب بورقيبة منها، ويقصد هنا خاصّة الأزهر الشرايطي وذلك عندما ذكّر سامعيه بأنّه يجهل القراءة والكتابة وأشياء أخرى انتقاصية، لكن بالرغم من ذلك مُكّن من رُخص نقل ومن ضيعة كبيرة ومن منزل.. ومنهم أناس استمكنت بهم «الجرثومة» اليوسفية فلم يقدروا على إخراجها منهم، حتّى لمّا عفا عنهم الحبيب بورقيبة في «زيْغهم» الأوّل ومكّنهم من الرجوع إلى الحظيرة الوطنية! لكن «جرثومتهم» انتكاسية وميّالة للمعاودة..ومنهم من جرّه الطمع والزهوّ بالنفس فزُيّن له حُسن المآل وسهولة المنال، ومنهم..ومنهم...فكلّ الكلام هنا مباح لتشويههم وتقبيحهم وشيطنتهم و»تكفيرهم» الوطني، وذلك بغاية أن ينزل قرار الإعدام لاحقا على التونسيين بردا وسلاما، وقد تنفّسوا الصعداء شاكرين الله على رعايته التي حفظت الحبيب بورقيبة من المصير الذي كان يُحاك له غدرا وخيانة! !
لكن السؤال الذي يطرح هو ما الذي دفع بهؤلاء «المتآمرين» إلى التفكير في هذه المحاولة الانقلابية؟ ومن هم؟ وهل صحيح ما قيل عنهم؟ وذلك بقطع النظر عن صحّة أو خطأ تحرّكهم، لأنّ ذلك يتجاوز تكويني وليس من اختصاصي، فرغبتنا نحن هنا هي أن نفهم دوافع تحرّك هؤلاء بعيدا عن أجواء التشحين «التخويني».
دوافع التحرّك التآمري.....
ثمّة عوامل متظافرة دفعت بهذه المجموعة إلى الالتقاء على هذا الهدف، هدف تغيير نظام الحكم في تونس إذّاك، فتداعيات الخلاف البورقيبي اليوسفي لم تندمل بعد والتصفيات التي حدثت والإعدامات التي أقرّتها محكمة القضاء العليا لا تنسى بسهولة، بل ربّما زادها مقتل صالح بن يوسف، وبتلك الطريقة، تأجيجا ولو في النفوس وغليانا ولو في الصدور، والظروف الاقتصادية الصعبة للغاية التي تمرّ بها البلاد التي قرّرت الدخول في تجربة اقتصادية جديدة، تجربة التخطيط والاشتراكية، ومن مظاهر هذه الصعوبات التي ذكرت حتى في المحاكمة نُدرة زيت الزيتون في بلده تونس إلى درجة خلطه بزيت الصوجا، وفي المقابل قامت الدولة آنذاك ببناء قصور رئاسية «فخمة» بينما مناطق أخرى من البلاد ما زالت تعاني من «الخراب» و«الحرمان»، حسب بعض أقوال المشاركين في «المؤامرة»، ويعنون هنا خاصّة منطقة الجنوب وبالأخصّ الجنوب الغربي.
كما كانت دعوة الحبيب بورقيبة الصريحة إلى الإفطار في رمضان وفق تأويله الخاصّ به في هذه المسألة، والتي تزامنت أو أُرفقت بإجراءات فُهم منها أنّها تريد أن تبعد تونس عن محيطها العربي الإسلامي، وتدخلها في البوتقة الغربية، الأثر في انضمام البعض إلى هذه المجموعة، ولا ننسى هنا أنّ مصر الناصرية آنذاك في أوج عنفوانها القومي وفي أقصى حالاتها الرغبوية لريادة الأمّة العربية، وراديو صوت العرب له أثره السحري في النفوس والعقول.
.....أهمّها بنزرت1961
ولعبت «كارثة» بنزرت 1961 دورا حاسما في ظهور نواة صلبة من هذه المجموعة في هذه المنطقة، كما عُدّت هي الدافع الكبير وراء انضمام عدد من العسكريين إلى المؤامرة.
والظاهر أنّ معركة بنزرت لم تكن معركة الشعب التونسي في نظر العديدين آنذاك وخاصّة سكّان بنزرت ولربّما إلى الآن إن لم نقل بالتأكيد، فما حدث في بنزرت هو تعبير عن رغبة بورقيبية في تحقيق مكاسب محدّدة، كأن تكون له «بنزرته» كما كانت لجمال عبد الناصر «سويسه» سنة 1956 ولو كان ثمن ذلك الزجّ بتونسيين في أتّون معركة غير متكافئة بالمرّة حُصدوا فيها حصدا وعُدّ الشهداء بالمئات ولربّما بالآلاف حتى لا نبالغ، وسرعان ما تنوسيت هذه الدماء التونسية المِدْرارة إثر ذلك بقليل، عندما بات الأمر وكأنّ شيئا لم يقع بين تونس وفرنسا خاصّة إثر تعليق الحبيب بورقيبة على خطاب شارل ديغول في بداية سبتمبر 1961، وكذلك طلاق الحبيب بورقيبة من زوجته ماتيلد وتزوّجه وسيلة في هذه الصائفة بينما دماء الشهداء في بنزرت لم تجفّ بعد حسب قول أحد «المتآمرين» آنذاك!
وقد ساهم سكّان بنزرت بما قدروا عليه في الدفاع عن مدينتهم التي سقطت أحْياء منها بيد المظلّيين، فما راعهم في ما بعد إلاّ أن عيّرهم البعض من الرسمييين في تونس بأنّهم «أبناء المظلّيين» الفرنسيين فحزّ ذلك كثيرا لدى بعضهم، وربّما من هنا نفهم دوافع وجود هذه النواة البنزرتية في «المؤامرة» كلّها تقريبا وهي مجموعة لها ماض نضالي ضدّ فرنسا، تجشّمت من أجله الأشغال الشاقّة وأحكام الإعدام، وقد برز منها خاصّة الحبيب حنيني الذي كان يشغل خطّة نائب المندوب السياسي للحزب الدستوري في بنزرت وسيحكم عليه بالإعدام في هذه «المؤامرة».
هذا، وقد تكبّد الجيش التونسي الفتيّ أو نواته الأولى خسائر في معركةٍ ليس مستعدّا لها على جميع المستويات، ومعروف مسبقا نتيجتها الكارثية على الجنود التونسيين، ونقصد هنا معركة بنزرت، بالنظر إلى اختلال القوى الكبير بين جيش تونسي حديث التأسيس لديه معدّات عسكرية قليلة وقديمة وبالية وبين جيش فرنسي مجهّز بأحدث الأسلحة آنذاك برّا وجوّا وبحرا، لكن القيادة السياسية شاءت خوض معركة ألحقت ضررا كبيرا بمعنويات جيش تونسي فتيّ وهيبته وحتى شرفه العسكري في نظر البعض آنذاك.
ومن هنا يمكننا أن نفهم مدى الاختراق الكبير الذي حققته هذه المجموعة «المتآمرة» داخل المؤسّسة العسكرية التونسية.
كما لا ننسى أنّ تلك الفترة تميّزت بموجة الانقلابات العسكرية في الشرق العربي منذ الخمسينات أو في افريقيا أيضا منذ بداية الستّينات خاصّة، ومن البديهي أنْ تُسيل هذه «الموضة» شهيّة البعض كي يفكّر فيها جدّيا، خاصّة وأنّ واقع الحرّيات في تونس آنذاك بعيد كلّ البعد عن المنشود في نظرهم.
ومن خلال كلّ هذا، يمكننا أن نتفهّم الدوافع الحقيقية لتحرّك هؤلاء بعيدا عن أجواء تلك الفترة وآثارها الحالية في الذاكرة، إذ أنّهم يعتبرون تصحيح الأوضاع في بلادهم «واجبا وطنيا مقدّسا» حسب نظرهم دائما، كلٌّ حسب المنطلق الذي انطلق منه في فهم الاعوجاج الحاصل واستقرائه، لكنّهم يتفقون في شيء هو أنّ الحلّ يقوم على تغيير الحكم الحالي وتبقى كيفية ذلك مسألة تفاصيل.
الماضي النضالي «للمتآمرين»
وإذا ما نظرنا إلى قائمة هؤلاء المتّهمين، فلا يمكننا أن نشكّك في الماضي النضالي للعديد منهم ضدّ فرنسا، وبالتالي، لا يمكننا أن نقدح في وطنيتهم وغيرتهم على هذه البلاد التي دفعت ببعضهم إلى امتشاق السلاح ضدّ فرنسا أو محاربتها بوسائل أخرى، أمثال الأزهر الشرايطي ومحمّد العربي العكرمي ومحمّد الصالح البراطلي والحبيب حنيني والساسي بويحيى والساسي لسود وأحمد الرحموني والعربي الصامت العكرمي.. وعلي المعاوي وعزّ الدين عزّوز وإن لم يحاكما.
لكن، هل يمكننا أن نعتبرهم «غير وطنيين» ونخرجهم من دائرة الوطنية و«نُغدق» عليهم بألفاظ دونية؟! وذلك، بمجرّد أن رغبوا في تغيير وضع قائم عدّوا السكوت عنه ضربا من ضروب خيانة الوطن وخيانة نضالات التونسيين الذين قاوموا فرنسا ودماء الشهداء التي أزهقت من أجل هذه البلاد، فهم رغبوا في استمرارية دوْرهم النضالي من خلال المحافظة على المكاسب التي ضحّوا من أجلها، والتي لاحظوا أنّ حياد من كانوا يعتبرونه على الأقلّ لبعضهم «مجاهدهم الأكبر» عنها يستوجب منهم التحرّك السريع لإنقاذ «مجاهدهم الأكبر» من التضخّم الفردي الذي استحكم به، وأنساه تضحيات من كانوا معه حتى في أشدّ فترات الخلاف البورقيبي اليوسفي أمثال الأزهر الشرايطي والساسي بويحيى اللذيْن لم يتورّعا في مطاردة اليوسفيين و..و..لكن، بالرغم من ذلك، لا يتوانى الحبيب بورقيبة في التحقير العلني لتضحيات المقاومين وكان يحبّ أن يطلق عليهم دائما لفظ الفلاّقة في معناه السلبي، بل وعدّهم تجاوزوا حدودهم ونسوْا أنفسهم، عندما باتوا يطالبون بمطالب يعتبرونها هم شرعية كمكافأة منهم عن نضالاتهم ضدّ فرنسا، بينما أقصى ما كان الحبيب بورقيبة مستعدّا لتوفيره إليهم، هو رُخَص نقل أو دخان أو في أحسن الحالات ضيعة ما للمحظوظين منهم مثل الأزهر الشرايطي أمّا أن يحلموا بمراكز قيادية ومسؤوليات في الدولة فهذا من المُحال! !
لكن هل من المعقول مثلا أن يجوع أحد قادة المقاومة مثل الساسي بويحيى؟ فيتدخّل لفائدته رفيق دربه الأزهر الشرايطي- حتى وإن كان يخشاه كما قيل- فإذا به يُنتدب شاوشا في وزارة الداخلية!
أين يمكننا أن نجد إثر ذلك الساسي بويحيى؟ هل سنجده يسبّح بحمد النظام البورقيبي الذي ساهم في إرسائه من موقعه فإذا به يُلفظ هكذا بتعلّة جهل وأمّية؟! وإذا كان هذا هو حال أحد قادة المقاومة فلنتخيّل أحوال «الفلاّقة» العاديين؟!
ألا يمكن أن لا يخطر ببال هؤلاء «الجهلة» من المقاومين القيام بحركة تصحيحية ما؟ لا يهمّ إن كانت تعني صعودا مجدّدا في الجبل أو انقلابا عسكريا أو ثورة شعبية؟! فالمهمّ هي النتيجة! وهي التصحيح!
ولنفرض جدلا أنّ هذا «الجاهل» لم يكن قادرا آنذاك على استيعاب مثل هذه الأشياء كما صُوّر إذّاك، فما هو دور البقيّة المتعلّمة آنذاك داخل المجموعة أمثال عبد العزيز العكرمي؟ ألا يمكن لها أن تقوم بدور التوعية والتثقيف السياسي لهؤلاء «الجهلة» إن لزم الأمر؟ خاصّة وأنّ لديها من المؤهّلات الكلامية والمهارات البلاغية والتجربة البيداغوجية ما يؤهّلها لذلك؟
المجموعة «الانقلابية»: مجموعات...
هذا يجرّنا إلى الحديث أكثر عن هذه المجموعة الانقلابية «اللامتجانسة»، والتي نعتقد أنّها تنقسم إلى ثلاث مجموعات: مجموعة قفصة ومجموعة بنزرت والمجموعة العسكرية.
كما نعتقد أنّ العقل المدبّر الأوّل لهذه المجموعة هم عبد العزيز العكرمي والهادي القفصي وعمر البنبلي، كما نعتقد أنّ الثقل المعنوي لهذه المجموعة «الانقلابية» يقع على عاتق هؤلاء الثلاثة، ولا تهمّنا هنا تفاصيل من اقترح الأوّل الفكرة وكيف اختمرت..؟ لأنّ ذلك صعب إثباته.
لكن، من شبه الثابت، وفق الوثائق المتوفّرة أنّ الفكرة اختمرت في صيف 1962 وأنّ البداية كانت مع إعلان تمرّد في قفصة أو ثورة على غرار ما حدث فيها سنة 1980، وأنّ عبد العزيز العكرمي هو الذي يقف وراء هذا الاتّجاه وسرعان ما عاضده فيه الهادي القفصي من منزل جميل ويقطن في منزل بورقيبة مع عائلته لكنّه أصيل منطقة قفصة ومن العكارمة تحديدا، وكان متحمّسا للغاية لفكرة إحداث تغيير جذري في البلاد بالرغم من أنّ مكانته الاجتماعية تخوّله أن ينكفئ على نفسه، لكنّه أبى ذلك لا لأطماع أو اضطراب في نفسيته ولست أدري ماذا ممّا ألصق به من نعوت آنذاك، بل لأنّه كان هو المختصّ الوحيد في تونس آنذاك في مجال التدفئة المركزية، وتمكّن من تكوين شركة في الغرض رغم صغر سنّه الذي لم يتجاوز 27 سنة، وبالتالي، من الأكيد أنّ أحداث بنزرت أثرت فيه كما أثر فيه كثيرا انتزاع 7 هكتارات من أرض والده في منزل بورقيبة باسم المصلحة العامّة.
وصادف أنّ قائد حامية قفصة صالح حشاني لديه قرابة عائلية بالهادي القفصي، الذي خاطبه في الأمر فعبّر عن استعداده لإعانة هذه الثورة إن اندلعت، وهنا لا بدّ أن نذكر الدور المحتمل للشيخ أحمد الرحموني في هذه المسألة كذلك.
ومع الاتصالات التي قام بها النشط جدّا الهادي القفصي، تبيّن وجود نواة في بنزرت أيضا تضمّ محمّد الصالح البراطلي والحبيب حنيني وعلي كشك..وفي الأثناء، أُعلم الأزهر الشرايطي بالمسألة دون أن يُذكر له في البداية وجود عبد العزيز العكرمي في هذه الخليّة تجنّبا لرفض محتمل منه، فاتّصل بدوره على الأرجح بعمر البنبلي الذي سبق له أن تعرّف عليه أثناء حرب فلسطين التي تطوّع فيها الأزهر الشرايطي، فوجد تحمّسا منه وتعهّد بانتداب العسكريين وتتالت الاجتماعات تارة في منزل الأزهر الشرايطي في الزهراء أو في ضيعته في مجاز الباب وتارة في قفصة وتارة أخرى في بنزرت وفي تونس في منزل الهادي القفصي وغيره..
....واتفاق على تغيير السلطة القائمة
والظاهر أنّ التنسيق بين النواتات الثلاثة لم يكن كما يجب وهذا بديهي بالنظر إلى وسائل تلك الفترة، لكن ثمّة اتفاق بين كلّ الأطراف على وجوب تغيير السلطة القائمة تغييرا جذريا، ويكمن الاختلاف ربّما في تصوّر تنفيذ ذلك، فمثلا طُرحت مسألة هل يجب قتل الحبيب بورقيبة أم لا؟ والأرجح أنّه تمّ الاتفاق على تصفيته درءا لكلّ فشل محتمل للانقلاب حتى بعد نجاحه، بالنظر إلى الشعبية التي يتمتّع بها الحبيب بورقيبة وهذا أمر لا يمكن إنكاره.
الظاهر أنّ عبد العزيز العكرمي اتفق مع محمّد الصالح البراطلي على تنفيذ الاغتيال، -وهذا ما لم يذكر في محاضر الاستنطاق والمحكمة-، وذلك بالتعاون مع رئيس حرس القصر الرئاسي كبيّر المحرزي، الذي تعهّد بإفشاء كلمة السرّ الليلي إلى محمّد الصالح البراطلي كي يتمكّن من الدخول للقصر وتنفيذ عملية القتل، وكان ممّا يقوله المحرزي أنّه قادر على إيصال من يريد إلى الحبيب بورقيبة في فراش نومه.
..... وقرار العسكريين القيام بالانقلاب لوحدهم
على كلّ، سرعان ما تعزّزت هذه النواة الصلبة الأولى بآخرين لتتشكّل نواة أكبر نجد فيها زيادة على هذا الثالوث، الحبيب حنيني وخاصّة أحمد الرحموني ثمّ الأزهر الشرايطي والساسي بويحيى، وكانت الاجتماعات تضمّ في البداية المدنيين ومعهم بعض العسكريين، لكن، لمّا تبيّن للعسكريين أنّه باتت لديهم القوّة الكافية للقيام بالعملية الانقلابية لوحدهم خاصّة مع انضمام العقيد عبد الصادق بن سعيد المكلّف بالمدرّعات في العوينة والمنصف الماطري في وحدة المدرّعات في منزل بورقيبة وبن بركية في سلاح الهندسة ومحمّد بن قيزة في المدفعية الثقيلة ببوفيشة وحسن مرزوق مدير مدرسة تكوين إطارات الحرس الوطني في بئر بورقبة، قرّروا الاستغناء عن المدنيين في الانقلاب والقيام به لوحدهم، مع الاستعانة بهم لاحقا، لذلك، لم يحضروا الاجتماع المشترك يوم 18 ديسمبر 1962 وأعلموا المدنيين أنّ الواسطة بينهم هو عمر البنبلي، وعقدوا اجتماعهم لوحدهم والذي قرّروا فيه على الأرجح موعد الانقلاب وهو يوم الخميس 20 ديسمبر مع منتصف الليل، وربّما ليس يوم الأحد 23 منه كما برز في ما بعد، المهمّ أن يتمّ الانقلاب قبل سفر الحبيب بورقيبة إلى الكاف.
وتتكوّن القيادة العسكرية من ضبّاط شبّان درسوا في مدرسة سان سير بفرنسا أمثال محمّد قيزة والمنصف الماطري، أو قدامى مخضرمين كانوا في الجيش الفرنسي وهنا عبد الصادق بن سعيد الذي عرفت عائلته في منطقة نفزاوة بموالاتها لفرنسا منذ احتلالها البلاد التونسية، أو كانوا في حرس الباي وهنا كبيّر المحرزي وصالح حشاني، واستغلّت الدعاية الرسمية ماضي هؤلاء المخضرمين للتشهير بهم على أساس بقايا الرجعية البالية والاستعمار المقيت، كما شهّرت بعمر البنبلي على أساس هوْسه بتوريد انقلابات الشرق الأوسط وخصوصا سوريا إلى تونس!
... وإعلانهم حكومة انتقالية لتنظّم الانتخابات
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل أكثر، فالمفيد أنّ النيّة كانت تتجه لدى هؤلاء العسكريين أو جلّهم لا ندري! في إعلان حكومة انتقالية تسهر في ما بعد على تنظيم انتخابات في البلاد، لكن، إن نجحوا هل سيسلّمون السلطة للمدنيين؟ لا ندري أيضا! وذلك بالرغم من أنّ هذه المسألة نُوقشت بين العسكريين والمدنيين داخل المجموعة، وطُرحت أسماء قد يُستعان بها لتسيير البلاد وبعض الوزارات ومنها المنجي سليم والطيّب المهيري ومحمّد الميلي ومحمّد بن عمّار الورتتاني والمنصف المنستيري والشاذلي الخلاّدي وعبد القادر التعبوري ونور الدين الزاوش والصحبي فرحات.
وحسب الاستنطاقات في المحكمة، فقد أقرّ الرحموني أنّه اتصل بالزاوش كما فرحات لكن سنلاحظ لاحقا أنّ الصحبي فرحات فقط هو الذي سيحاكم وسيسجن في كرّاكة غار الملح أين سيموت هناك جرّاء التعذيب والمرض.
في الحلقة القادمة:
٭ حدود الدعم الخارجي للمؤامرة وحقيقة إتلاف الوثائق
٭ لغز التعجيل بالمحاكمة وتنفيذ الأحكام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.