{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} القرآن (الأحزاب، الآية 70) لسنا على يقين من أن ما يشغل بال المعدومين ممن طالهم التهميش وأضنتهم الهشاشة وطوحت بهم السبل وهم كُثر بعد الإطاحة بعنوان انسداد الآفاق تونسيا، هو تقديم صك على بياض للساهرين من ساستهم أو من القائمين على هياكل دولتهم كي ينكبوا على ملفات أمنية وتنموية وإدارية وقضائية متشعّبة عويصة ليس ضمنها ما يحتمل مزيد إرجاء. فواقع ما بعد الثورة، ذاك الذي نعاين حساسيته البالغة وشدة تعقده يُغنينا مؤونة تقديم دامغ البراهين حول بطلان هكذا ادعاء. الشعب يريد استرداد الكرامة، يريد خبزا مبللا بالعرق، يريد أن يُحترم حقه في أن تكون له أحلام بسيطة تبنيها ضوابط منبثقة عن شعور حقيقي بالحرية، يريد أن يقطع مع من اعتادوا الغدر بأحلامه من الضالعين، وتحت جميع المسميات، في تحطيم صادق العزائم وموفور الرغبات. يريد أن يشمله عنوان الكرامة مأكلا ومشربا وملبسا وتعليما واستشفاء ورفاها وتنويرا حسّا ومعنى. يريد أن يهتدي عقلا إلى طريق سالكة يأنس في اختراقها إلى مدلول واقعي لما استرده من عزيز الحرية، غير قابل بغير التكافؤ وازعا. هو يريد، ويريد ويريد.. إرادته صنعت من اعتدال الهواء وعافية الماء على أرضنا حضارة كد وإبداع، وإصرار بليغ على الحياة اندس عميقا في مُهج لم يعتورها فتور ولم يثبطها كلل. أن تكون غضبته اليوم حانقة وأن يكون استعجاله مُكلِفا، فذاك أمر مفهوم بعد صبر منهِك على الضير انجلى معه إمعان جهاز قامع طوى البلاد وجثم على أنفاسها نكالة وامتهانا. وأن يفهم أهل السياسة المؤتمنين على صنع القرار منا ذلك ويستوعبوه دون إظهار امتعاض أو إسراف في تبرم، فذلك أضعف إيمانهم بعد أن انكفأت ألسنهم وعَمَتْ بصائرهم حتى تبرّأت الخلائق بعضها من بعض. ما يعوزنا اليوم بعد أن واجهتنا الحقائق عارية من زيف الزائفين ومحترفي البهتان، هو استعادة حد معقول من الثقة في السياسة يبسط طريق المساعفة ويَكْلُمُ جراحا عزّ تضميدها. القول ميثاق الساسة يصدعون به واثقا معافى كفلق الصبح يجلو غبش الظلمة. للكرامة شروط ليس أقلها القطع مع منطق الفوضى والتفرّغ للكد والجد. والقول في شرع المسلم مصارحة ونبذ للتورية والنفاق معنى وفعلا. فالإيمان إعراض عن نقل الأراجيف والأباطيل الكاذبة، وهو في مقدس النصوص تسفيه لدعاة الضلال ومجابهة للأجواء العكرة بالتقوى، ومصداقها سداد القول، ومعناه في عرف المفسرين صلاح الطويّة. فالقول في خالص ما تفتقت عليه عارضة التونسيين تفسيرا وتحريرا وتنويرا: «باب من أبواب الخير والشر إذ في الحديث «هل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»؟ وفيه أيضا «رحم الله إمرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» و«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». فصلاح الأعمال جزاء على القول السديد، لأن أكثر ما يفيده سديد القول إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بمن طاوع السداد لسانه. يتبيّن مما ذكر أن معضلة الناس في ألسنتهم وأن صلاحهم في تسديد الأقوال الناطقة بها، لأن ذلك من صادق الإيمان المشروط حصوله بالتقوى. ولا يعترينا أدنى شك، في حضور وشائج واضحة تشد هذه المُثل السامقة في ثقافة الإسلام إلى تصورات الهوية المشتركة المرتكزة على الارتقاء بفكرة «الكريولية» كونيا، وهي في مدلولها الدقيق حاضرا دعوة صريحة إلى هدم جدران التمييز التي تحتمي بها جميع التوجهات الثقافية والسياسية المتسلّطة العاملة على إقصاء غيرها. على أن الضوء المُسْرِج للفكرة يكمن في توصّل انفتاح «البذل من أجل الحصول le donner – recevoir» على تقويض جدران الانغلاق المسرف في الأنانية المستهزئ بذكاء الغير، تساوقا مع عبقرية مفكر المارتنيك «أدوارد غليسون Edouard Glissant» الذي فارقنا منذ أيام، تلك التي تضمنها مؤلفه الذائع الصيت «شعرية العلاقة la poétique de la relation» فلئن ثبت تاريخيا أن بناء الحضارات قد خضع في الغالب الأعم إلى مبدإ الغلبة واستعباد المغلوبين، فإن الواقع الراهن كونيا يدعو إلى تجاوز الوقوع في أسر التاريخ، بالتعويل على تطوير مبدإ الشراكة البناءة المُلزمة لجميع الأطراف تطلّعا إلى الاشتراك في التنمية والوصول إلى رقي الحضارة. وشرط ذلك المصارحة، ومن دواعيها المتأكدة القطع مع منطق خلط الأوراق وتسفيه أحلام دعاة هذا التصرف أينما وجدوا، بإعلاء مبدإ الاحتكام إلى القانون في حل المشاكل العالقة ودعم جميع الجهود الرامية إلى الاستثمار في بناء الثقة بتحرير الأيادي والعقول وتمكين الجميع من حقوقهم المسلوبة توسيعا للحريات وتحقيقا للعدالة. مربط الفرس في كلامنا تحديد نقطة الانطلاق فيما صحّ عزمنا على إنجازه بعد أن زالت غشاوة الزيف عن أعيننا؟ فبناء الثقة مجددا على طريق سالكة ومضنية تحتاج صبرا وأناة يماثل وجودهما حاضرا «الكبريت الأحمر»، لذلك فإن استرداد هيبة الدولة يمر في تقديرنا أساسا بتفعيل مبدإ المشاركة قبل الدعوة إلى التهدئة والانضباط، إيقافا لتعاظم كرة الثلج بعد أن استعصت عن الضبط. وهذا مجال مفتوح لقول الساسة سديد معافى من الزيف والمواربة. فإن كانت التنمية عود إلى العمل واسترجاع للثقة عبر دعوة الكافة إلى الاشتراك في الفعل، فإن مصداق ذلك فيما ندّعيه فتح باب الاكتتاب لجميع التونسيين باقتطاع نسبة تتراوح بين (5% و 10 %) من أجوار كل من جاوز راتبه أجران مضمونان وذلك لمدة تكفل انتقالا سلسا إلى منوال عادي للتنمية، وصرف ذلك الاعتماد بالكامل تكافلا مع من طالهم العوز وتقطّعت بهم السبل في المفاوز البعيدة والمواطن المُنَفِّرة، مأكلا ومشربا وطريقا وماء ونورا ومشفى ومدرسة. هذا قدرنا المحتوم نقتفي عبر تجاويفه طريق من سبقونا إلى ممارسة فلسفة التآزر في تجربة توحيد الألمانيتين، رُمْنَاه اختيارا في بداية عهدنا بالاستقلال في التسوية بين بيوت العلم وبيوت الصلاة، ونقتفيه اضطرارا إذا ما رمنا تهدئة الخواطر وتشريك الكافة في مسؤولية البناء حاضرا، درءا للمحاذير واستحثاثا لاستجابة القدر. Glissant (Edouard) La poétique de la relation, Paris, éd., Gallimard 1990. 241 pages.