«الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    أخبار الترجي الرياضي: استقرار في التشكيلة ومساندة جماهيرية كبيرة    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    حركة النهضة تصدر بيان هام..    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب «ليطمئن قلبي» لمحمد الطالبي: أخطأ.. وأصاب ولكن (2-2)


1. علم أصول الدين:
نلاحظ على هذا الصعيد أن الطالبي يشيد بالفكر الكلامي الاعتزالي معتبرا إياه قمة ما وصل إليه في مجال الذبّ عن العقائد الإيمانية بالحجج العقلية(26). ولكنه في نفس الوقت يشيد بالفكر الخلدوني (الذي هو أشعري في التقليد العقدي السائد في عصره)، دون أن يدفع بالدرس الخلدوني إلى أقصاه، أي دون أن يستنتج الخلاصات المنطقية القصوى لذلك الدرس. فهو مع كونه انتبه بكل وضوح إلى حقيقة تأسيس ابن خلدون للعلوم الإنسانية على نطاق كوني، إلاّ أنه لم يتفطن إلى أن ابن خلدون قد قال
باستحالة بناء علم أصول الدين على أسس عقلية (الهم إلا من باب تبرير العقائد ما-بعديا) وأنه لهذا السبب بالذّات قد أغلق باب الإلهيات وافتتح باب الإنسانيات، زيادة على كونه قد لاحظ زوال الباعث والجدوى من ذلك العلم من الناحية الوظيفية السوسيولوجية والحضارية(27).
فكأن الطالبي يرغب إذن في بقاء علم أصول الدين، وإن ضمن الموجة المعروفة بعلم الكلام الجديد، وكتابه "ليطمئن قلبي" يمكن أن يصنف بالفعل ضمن هذا النوع من الخطاب، حتى وإن اكتسى مسحة من التشدّد(28). ولو بقي الطالبي في حدود العلوم الإنسانية أو حاول الارتقاء بخطابه إلى المستوى الفلسفي الكوني لكان ابن خلدون جديدا أو كانطا جديدا أو سبينوزا جديدا أو برغسنا جديدا، ولكن ويا للأسف آثر أن يخاطب الملّة الإسلامية وحدها، في عصر مشكلته هي مشكلة الإنسان ومنزلته كونيا وليست مشكلة المسلم فقط. وبالتأكيد سيجني الطالبي نتائج هذا الاختيار النضالوي الضيق.
فمتى يأتي الوقت لنشهد ميلاد فيلسوف مسلم عربي جديد في مصاف الفلاسفة العالميين، كابن رشد29، ولنرى ظهور عالم محترم كونيا كابن خلدون؟
2. ختم النبوة:
لقد ناقش الطالبي هذه المسألة انطلاقا مما كتبه عبد المجيد الشرفي حولها. نذكّر هنا باختصار أن هذا الأخير قد قدم تصوّرين ممكنين لختم النبوة: الختم من الداخل (البقاء أسيرا في بيت النبوة) والختم من الخارج (الخروج من بيت النبوة والسياحة في أرض الله الواسعة...). وبطبيعة الحال ينصحنا الشرفي باختيار الحل الثاني، باعتبار أن الإنسان قد بلغ الآن مرحلة الرشد. وهنا تثور ثائرة الطالبي فيقول متهكّما من رأي الشرفي: «هل أن هذا الإنسان قد بلغ سنّ الرشد؟ أم هل هو فقد رشده؟»(ص.84).
والرأي عندنا هو أنّ كلا الرّأيين مجانب للصواب. ولنبدأ بمناقشة الطالبي لأننا في أشدّ العجب من موقفه من هذه القضية. كيف لا يتبنى الطالبي مقولة الرّشد وهو يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم (الموافق لروح القرآن: وهذا شرطه في قبول السنة): «العلماء ورثة الأنبياء». ثم أليس ما يقول به من قراءة سهمية مقاصدية للشريعة هو مظهر من مظاهر ختم النبوّة؟ لا نرى الطالبي إلاّ وهو يردّ علينا بقوله إن القراءة المقاصدية لا تخرج عن روح النبوة، بل هي التكريس الأمثل لها! ومن قال غير ذلك، ما دامت الغاية القصوى من النبوة هي ترشيد الجنس البشري ومرافقته في مسيرة نضجه الشاقة والطويلة؟! لقد فهم الطالبي من ختم النبوة الخروج من بيت الإسلام إلى دار الكفر والضلال، ومن قال أن استقلال الإنسان بعقله وتحرره من كل ضروب الوصاية يعنيان حتما الكفر بالله وبنعمه؟! أليس مفهوم حقوق الإنسان الذي يتبناه الطالبي هو من ثمرات ذلك الاستقلال والانعتاق؟! وأليس هو من باب تكريس مبدإ تكريم الإنسان الذي قرره القرآن الكريم؟ قد يقول الطالبي مثل ما سبق أن قلناه في غير هذا الموضع أن منظومة المقاصد الشرعية تحتوي ضمنيا على هذه الحقوق(30)، ولكن هيهات أن تنقلب مقاصد المكلِّّف إلى مقاصد المكلَّف من دون ولادة مفهوم الفرد(31)، التي لم تقع في سياق النبوّة وإنما في سياق ختمها داخل الفضاء الغربي الحديث(32).
ولكن الإنسان(ومن هنا نبدأ في مناقشة الشرفي) لم تتح له فرصة الاختيار الحر والترشّد الذاتي إلاّ بفضل الدور الحضاري العظيم الذي قام به الأنبياء ليخرجوه من طور البربرية والتوحش ويدخلوه إلى طور الإنسانية والمدنيّة، فالدين في جوهره تمدين وهو أوّل من أتى بفكرة القوانين والتشريعات لتنظيم المجتمعات البشريّة(33)، وإنّما وظف الدين نوازع الإنسان الطبيعة من خوف وطمع لتمكين تلك المبادئ الحضارية والقيمية من نفسه: فالناس يدعون الله «خوفا وطمعا»، كما وصفهم القرآن الكريم (السجدة/16).
ولذلك يجدر بالفقهاء المعاصرين أن يخرجوا الآن من دائرة البراديغم الفقهي القديم الذي توعز فيه المقاصد إلى الشارع، مع أنّها استنتجت بالنظر العقلي، لتسند صراحة إلى الإنسان الذي تصبح استقلاليته الفكرية، بعد أن تدرب عليها طويلا، المقصد الأسمى لتلك المقاصد، أو مقصد المقاصد، ليلجوا إلى رحاب البراديغم الحقوقي المعاصر : براديغم حقوق الإنسان(34). الوحي (وخاصة الأخير: القرآن) لم يكن إذن عائقا أمام تطور الإنسان واستقلاله بل كان مرافقا له في مسيرة تحرره ونضجه. هذه فكرة أولى نضعها أمام نظر الأستاذ الشرفي(35).
فكرة ثانية لا يتضمنها تصور الشرفي لظاهرة ختم النبوة، هي أن هذا الختم لا يقع دفعة واحدة، بل على التدريج، وهو سيرورة وعي مطّرد، إذ أن هذا الختم ظاهرة معرفية وليست مجرّد حدث تاريخي، وبما أنه كذلك فإنه لا يتم إلا بمقدار وعي الإنسان به. ومن هنا فّّإن كل السلفيين (وهم ينتمون تقليديا إلى دائرة الإسلام) ليسوا معنيين واقعا بهذا الختم وإن كان منطق التاريخ يدعوهم إلى ذلك، بينما أبناء الغرب الحديث (وهم من يعتبرون لدى المسلمين تقليديا كفارا) هم في غالبهم يمارسون حثيثا هذا الختم، من خلال الإمعان في مدّ العقل بأسباب رشده واستقلاله، حتى وإن كان ذلك يتم في عديد الأحيان على حساب سعادة الإنسان، نظرا لتسارع نسق الحياة والوقوع ضحية الضغط النفسي المزمن وعدم الشعور بالأمن وفقدان المرجعية القيمية المتجذرة في أعماق الإنسان(36)...الخ. ومن هنا ضرورة التوازن بين مطامح العقل وضرورات الروح والوجدان. وبالتالي فختم النبوة يخص فقط ما بمقدور الإنسان معرفته (العقل النظري والعلمي عند كانط)، أما ما يمكن للإنسان أن يأمله (العقل العملي)، فلا يكون إلاّ بالانطلاق من مصادرات، لا شيء يمنع من اعتبار الإيمان أحدها(37)، بما أنها بالتعريف مصادرات لا يمكن إقامة البرهنة العقلية عليها. وبالتالي الأجدر بالشرفي أن يكفّ عن الخوض في مجال العبادات (كالإفتاء بإمكان التخلي عن الصلاة لمن أراد ذلك أو لم يجد لها الوقت الكافي(38))، فهذا قول غير علمي بالمعنيين معا: بالمعنى التقليدي لكلمة (اختصاص علم الفقه) وبالمعنى الفلسفي(الابستمولوجي) لها، حيث يمتنع القطع عقلا في مثل هذه الأمور، فلا فائدة من هرسلة المؤمنين وإزعاجهم بمثل هذه الأقوال، وليقتصر عليها لنفسه إن شاء، ولا نحسب من هو مقتنع بقوله بحاجة إلى سماعه منه، والحال أنه حاصل لديه، فلا يكون عندئذ إلاّ لغوا.
أخيرا، إن محمد إقبال الّذي انطلق منه الشرفي في بناء تصوره لختم النبوّة (ثم حرّف قوله عن مقصده) لم يحرّض المؤمنين على ترك الصلاة مثلما فعل الشرفي بزخرف القول (أسوة بالزعيم بورقيبة الذي دعا الناس إلى ترك الصوم، ففشل في ذلك فشلا ذريعا)، بل لجأ (إقبال) إلى الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس ليستشهد بقوله: «يرجح لدينا أن الناس سيظلون يصلون إلى آخر الزّمان، بالرغم ممّا قد يأتي به العلم من عكس ذلك...والباعث للإنسان على الصلاة نتيجة ضرورية لحقيقة هي أن النفس الإنسانية التجريبية وإن كانت في صحيحها نفسا اجتماعية فإنّها لا تستطيع أن تعثر على ندّها (أي «رفيقها الأعظم») إلاّ في عالم مثالي...ومعظم الناس تنطوي صدورهم على ما يشير إليه دواما أو بين حين وحين» (تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص، 99). أمّا إقبال نفسه فيقول عن الصلاة: «...الصلاة التي تستهدف المعرفة تشبه التأمّل، ومع ذلك فالصلاة في أسمى مراتبها تزيد كثيرا على التأمّل المجرّد. وهي كالتأمّل أيضا في أنّها فعل من أفعال التمثل، ولكنّ التمثل في حالة الصلاة يتخلى عن سيرته بوصفه باحثا عن العموميات البطيئة الخطو، ويسمو فوق التفكير ليحصّل الحقيقة ذاتها، لكي يصبح شريكا في الحياة شاعرا بها. وليس في هذا شيء من الخفاء، فالصلاة من حيث هي وسيلة للهداية الروحانية فعل عاديّ تكشف به فجأة شخصيتنا التي تشبه جزيرة صغيرة، مكانها في الوجود الخضمّ الأكبر للحياة...والواقع هو أن الصلاة يجب أن ينظر إليها على أنّها تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمّل في الطبيعة»(ص 99-100).
فأين فتاوى الشرفي المتسرّعة من هذا الكلام العميق، أم أنه جعل قراءته لإقبال قراءة عضينية، انتقائية يأخذ منه ما بدا له ويترك ما يشاء (39)، وقد فاته أن فلسفته تمثل منظومة متماسكة العناصر. فإقبال لمّا قال بختم النبوة، كما استأنفنا نحن القول بها من بعده، اقترح علينا ثلاث مصادر بديلة للمعرفة، استمدّها من القرآن الكريم الذي أعطى إشارة انطلاق سيرورة ختم النبوة، وهذه المصادر هي: استقراء ظواهر الطبيعة(لبناء العلوم الصحيحة) واستقراء أحداث التاريخ وظواهر العمران البشري (لبناء العلوم الإنسانية) ورياضة الباطن (الصلاة التأملية، لاستكمال سعادة الإنسان ووعيه الوجودي).
3. الناسخ والمنسوخ:
من الشائع في أدبيات من باتوا يعرفون اليوم بمفكّري الإسلام الجدد، أن نقرأ عن الناسخ والمنسوخ وكيف أن هذه الآلية الفقهية، التي قننها الشافعي، بعد أن وجد أصلا لها في القرآن الكريم، تمثّل نهزة للعقل الديني حتى يتحرّر نوعا ما من انغلاقه ويخفف من تحجّره. والنسخ لغة هو الرفع أو الإزالة واصطلاحا «الخطاب الدّال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدّم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه»(40). كنسخ الآية التي توصي للوالدين بنصيب من الميراث دون تحديد: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إن ترك خيرا، الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقا على المتقين»(البقرة/ 180)، بالآية التي تحدّد لهما مقدارا معينا منه: «ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه، فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس، من بعد وصية يوصي بها أو دين»(النساء/11)، أو كنسخ الآيات التي لا تحرّم الخمر وإنما تنفر منها فقط أو تنهى عن الصلاة في حالة سكر: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» (النساء/43)، بالآية التي تحرمها «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»(المائدة/90)(41)...الخ. ولكن ما فوجئنا به لدى محمد الطالبي أنه ينفي نفيا قاطعا وجود النسخ في القرآن، إذ يقول حرفيا: «...لا ناسخ ولا منسوخ في القرآن، وإنّما من اجتهاد الشافعي-رحمه الله- في نطاق وضعه لمنهجية الفقه»(ص. 248).
حقا إن الطالبي هنا قد أتى بالجديد الذي خالف فيه جمهور العلماء، ولكنه جديد بالمعنى اللغوي فقط. فجدَّّ الثوبَ: قطعه، وبالتالي ما قام به الطالبي هنا هو مجرد قطع مع القديم، ولكنه قطع مع ما هو ثابت بنص القرآن الكريم نفسه: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم بأن الله على كل شيء قدير»(البقرة/106). لا شكّ أن الطالبي يعلم بوجود هذه الآية في القرآن، فلماذا نفى وجود الناسخ والمنسوخ إذن؟ لا وجود إلا لجواب واحد ممكن لهذه الوضعية الغريبة، وهو القول بتأوّل الطالبي لها تأولا آخر غير الذي أجمع عليه علماء المسلمين. فما هو هذا التأوّل؟ لا نعلم عنه شيئا. ولكن قد يقصر الطالبي النسخ على الكتب السماوية السابقة (نسخها من قبل القرآن). على كلّ، لم يزد الطالبي في الموضع الذي أشرنا إليه عما ذكرناه عن هذه المسألة.
وحيث لا نتوفر على المزيد من رأي الطالبي فيها، فإننا نطرح احتمال أن يكون دافعه إلى ذلك هو أمران: عجزه عن الجمع بين حالتين معا من حالات المشرّع (الله): أن يكون «قوله الحق»، من جهة، وتبديله لذلك الحق من جهة ثانية، بينما الحق لا يكون إلاّ واحدا، في نظر الطالبي، على الأقل كما نفهم من قوله: «الإسلام واحد عبر الزّمان والمكان»(ص. 45). نعم الطالبي يعطي الحق للآخرين أن لا يكونوا مثله ويؤكّد على هذا الحق عشرات المرات، ولكن بمعنى أن يكون لهم الحق في أن يكونوا على الضلال وأن يتبعوا خطوات الشيطان، وفي أن يحيدوا عن الصراط المستقيم. إن الطالبي يترك قرّاءه في حيرة من أمرهم إزاء هذا الموقف لأنه يتعارض تماما مع دعوته إلى إسلام من دون شريعة، بالاعتماد على قراءة سهمية مقاصدية للإسلام، وهو في هذا يختلف مع أجيال وأجيال من العقول والمدارس الفقهية. أي يقول بالتعدّد ويمارسه حتى داخل الملة الإسلامية. لا نظن أن الطالبي على هذه الدرجة من الاضطراب في مواقفه، بل غاية ما في الأمر أن الحق الذي يراه واحدا ليس حقا بالمعنى الضيق والتقنيني الجزئي، بل إنه على الأرجح يبحث عن روح الحقّ42، فيجده تشريعيا في مقاصد الإسلام ولا في جزئياته التشريعية. ولذا فهو ليس بحاجة إلى آلية الناسخ والمنسوخ في منظومته التشريعية.
نجيب عن كلّ هذا بطريقتين متكاملتين:
- لاهوتيا: الحق كما يقدمه القرآن الكريم ليس حقا ساكنا، بل «كل يوم هو في شأن»، والآية كاملة تقول: «يسأله من في السماوات وفي الأرض، كل يوم هو في شأن»(الرحمان/29). فتبدّل شؤونه هو من تبدّل شؤون الناس، وتغير أسئلتهم له، أي مطالبهم وقضاياهم ومشاكلهم. فهو قد أعلن صلته بهم من دون تحفّظ فهو «رب الناس/ملك الناس/إله الناس» في السورة التي كرمهم بها عندما سماها باسمهم (سورة النّاس). فإله الإسلام ليس كإله أرسطو الذي دفع العالم ثم دخل في إجازة وجلس مليارات السنين يتفرّج عليه...وبالتالي لا شيء يمنع من أن يعكس لنا القرآن صورة إله يغير من أحكامه بطريقة بنائية تطورية، فهذا لا يضادّ الحكمة في شيء، بل هو عين الحكمة.
- فقهيا: إن القراءة السهمية التي يريد تطبيقها الطالبي للشريعة، مبنية على فكرة المقاصد، والمقاصد الشرعية إنما بناها الشاطبي (في كتابه "الموافقات") والطاهر بن عاشور من بعده بقرون (مع اختلاف في المناهج(43)) على قاعدة استقراء أحكام الشريعة الجزئية وإيجاد جوامع كلية قطعية لها، ولا ظنية فحسب، كما هو وضع الجزئيات بطبيعتها. والناسخ والمنسوخ هما جزء من مدونة الأحكام الجزئية ويفيدان التيسير والتطوير، وبهما نفهم إلى أين تتجه الشريعة بالمقارنة بين الحكم المنسوخ والحكم الناسخ(44)، أي برسم السهم الذي يصل بينهما رسما يكشف عن الحكمة والمقصد من تبديل الحكم أو التخلي عنه.
وأخيرا وبما أن الطالبي شديد الإيمان بالقرآن ككل مسلم مخلص، فإننا نذكّره بقوله تعالى: «وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون»(النحل/101). ماذا لا يعلمون؟ لا يعلمون أن المعرفة تتطور والمجتمعات تتطور وتقييم الأوضاع يتغير، فممّا كان من الممتنع التفكير فيه في ابستيمية تلك العصور هو التطور والتغيير، فهو عندهم علامة الاضطراب والعبث والفتنة وضعف العقل وسوء الأخلاق، إذ قالوا «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون»(الزخرف/ 22). والناس في مجتمعاتنا يقولون: «اللهمّ لا تقطع علينا عادة»، فهو إذن من نزوع الإنسان الغريزي(قبل-عقلي) إلى الجمود والمحافظة، اقتصادا في الجهد. وفي النهاية، إذا ما حصل أن اطلع الطالبي على كلامنا هذا، ومع ذلك ظل على رأيه القديم، فإننا سنرغب بالتأكيد في معرفة سبب ذلك.
خاتمة:
لا شكّ أن كتاب الأستاذ محمد الطالبي "ليطمئن قلبي" يعكس جهدا معرفيا جادّا، في مستوى التنبيه إلى خصائص البراديغمات المعاصرة في العلوم التي تؤكد على النسبية واللاحتمية وما يستتبع ذلكم من ضرورة مراجعة مناهج البحث في العلوم الإنسانية التي هي أولى بالتنسيب من غيرها لانفتاحية المشاكل التي تطرح ضمنها، وكذلك في مستوى بناء القناعات الشخصية واحترام اختيارات الآخرين والاعتراف لهم بالحق في الإيمان أو اللاّإيمان، لا بحكم السماحة الأخلاقية (La charité)، وإنما بحكم طبيعة الأشياء نفسها، ولا شكّ أنه سيلعب دورا إيجابيا في تنشيط الحوار الدائر حول مكانة الإيمان في العالم المعاصر، هذا العالم الذي بات يشكو من جفاف حادّ لمنابع المعنى لديه، مما سمح بظهور مختلف النزعات الدينية المتطرفة في أمريكا وفي أوروبا وفي العالم الإسلامي، أو في مقابل ذلك الاستسلام للريبية والفوضى القيمية .
غير أن ما ننبه إليه هو ضرورة أن نفكّر بطريقة كونية ولا مِلّيّة. إن الإسلام لم يأت إلاّ ليكون ضمانة خلقية ووجودية، علينا أن نبحث لها عن أشكال إجرائية مناسبة، لممارسة الحرية الإنسانية والإبداع الخلاق. فالاختلاف سنة كونية باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما الصّراع ودفع الله الناس بعضهم ببعض، فذلك أيضا سنة كونية، حتى لا يطغى أحد على أحد. ولكن الصراع الذي يخوضه المثقفون والمفكرون يجب أن يتخذ من الأفكار نفسها مادّة للدّرس والتقييم ولا نوايا الأشخاص وضمائرهم. حقا إنّ الطالبي قد ناقش ودحض عديد الأفكار التي رصدها لدى خصومه بحجج لا بأس بها، ولكنه فعل ذلك بطريقة فيها الكثير من الانفعال، وهذا ما قد يخسر به مؤيدين من غير السلفيين، الذين لا يبحث هو ذاته عن استرضائهم، بل إنهم قريبا سينقلبون عليه عند ظهور كتابه القادم عن القراءة السهمية المقاصدية للإسلام، إن لم يكونوا قد حسموا فيه بعدُ.
أخيرا، بالتأكيد لا يمثل فكر الطالبي نسقا غير قابل للاختراق، بل من المرجّح أنه يحتوي على بعض الثغرات، ولكنه على كلّ حال فكر في منتهى الجدية والنزاهة وعلى غاية من العمق والجرأة، وهذا في حدّ ذاته أمر ليس بمتناول كل الناس، ولا حتى كثير من الجامعيين.
هوامش
26 - يقول الطالبي: «...ولذا تحتلّ علوم أصول الدّين والكلام في الإسلام مقاما أساسيا، وقد حاز قصب السبق فيها المعتزلة»(ص. 196)
27 - نحيل القارئ لمزيد التفاصيل إلى كتابنا "في إصلاح العقل الديني": فصل في نقد علم الكلام: علم أصول الدين : هل حان زمن القطيعة؟ وهذا الفصل موجود كذلك في الكراس الأول الذي نشره منتدى الجاحظ تحت عنوان" تاريخية الفكر الإسلامي" وفي موقع منتدى الجاحظ وموقع مدونات مكتوب.
28 - تشدّد الطالبي ليس كتشدّد السلفيين. فالسلفيون يرفضون الآخر بإطلاق، في الداخل والخارج. أما الطالبي فلا يرفض الآخر ولكنه يحدّ من مفهوم الذّات، ليخرج منها الانتماء الثقافي ويحصرها في الانتماء العقدي بحسب الفهم الحرفي للنص القرآني. مع التنبيه إلى كونه يتخلى تماما عن القراءة الحرفية للنص عندما يتعلق الأمر بغير العقائد والعبادات، أي بالمعاملات، حيث يتبنى هنا قراءة سهمية مقاصدية للشريعة. وهذا الموقف شبيه جدّا بموقف الفقيه الحنبلي نجم الدين الطوفي الذي ابتدع مفهوم رعاية المصلحة، حيث يقول «إذا تعارضت المصلحة والنص في غير العبادات والاعتقادات أخذ بما دلّت عليه المصلحة».
29 - نقدر كل التقدير فلسفة محمد إقبال.
30 - إذا نظرنا في مقاصد الشريعة الخمسة والتي هي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل لوجدناها تتوافق مع ما نعرفه الآن بمصطلح "حقوق الإنسان".
× فحفظ الدّين يعني حرية الاعتقاد وحرية التفكير "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". (قرآن كريم).
× وحفظ النفس يعني الحق في الصحة وصيانة حرمة الجسد.
× وحفظ العقل يعني الحق في التعليم والمعرفة والغذاء المتوازن.
× وحفظ النسل يعني الحق في المناعة وفي إقامة علاقات جنسية وفيّة وحقوق الطفولة.
× وحفظ المال يعني الحق في الشغل والكسب المشروع أو الملكية الخاصة.
31 - بطبيعة الحال، لم يفكّر الفقهاء المسلمون على وجه الدقة في مفهوم حقوق الإنسان الذي يعتبر من مجلوبات الفكر الفلسفي والتشريعي الحديث31، ولكن المسافة التي بقيت تفصلهم عن ذلك ليست شاسعة وإنّما تقع في منعطف جديد تنقلب فيه مقاصد الشارع إلى مقاصد المكلَّف الذي هو المواطن في المجتمعات المدنية الحديثة.
32 - لا نعتبر ختم النبوة ظاهرة دينية خاصة بالمسلمين، بل نعتبرها ظاهرة معرفية كونية تشمل كل الجنس البشري، وسنرى كيف أنه بإمكان كل البشر تحقيقها في التاريخ.
33 - أنظر لنسج، تربية الجنس البشري، ترجمة وتقديم وتعليق د.حسن حنفي، التنوير، بيروت، 1981
أو أنظر كتابنا، ختم النبوة: إبستيمية مولد العقل العلمي الحديث، تونس 2002، ص 61.
أو مقالنا "مرجعيّة الذات المتعينة في الحاضر : الفرد أم ولاية الفقيه"، مجلة الحياة الثّقافية، السنة 27، العدد 131، جانفي 2002.
34 - وهذه الملحوظة الأخيرة تهم الطالبي كذلك لأنّه يعتزم إصدار كتاب حول القراءة السهمية المقاصدية للشريعة.
35 - لمزيد التفاصيل، انظر كتابنا "ختم النبوة: ابستيمية مولد العقل العلمي الحديث"، تونس، 2002(متوفر بالمكتبات العمومية التونسية)
36 - انظر حوار الكاردينال جوزيف رتزنغار(البابا بنوان 16، حاليا) مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرمس سنة 2002(Revue Esprit).
37 - اعتبر كانط الحرية ووجود الله وخلود النفس ووحدة العالم مصادرات للعقل العملي.
38 - انظر كتابه الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص. 63.
39 - من عجائب الزّمان أن من أعاد نشر كتاب "تجديد التفكير الديني في الإسلام" للفيلسوف والشاعر الهندي محمد إقبال، هو عبد المجيد الشرفي نفسه (سلسلة معالم الحداثة، دار الجنوب للنشر-تونس، 2006).
40 - الغزالي، المستصفى من علم الأصول، ج1، ص. 107.
41 - قال الفقهاء أن الأمر بالاجتناب أشدّ من الحرمة نفسها، حيث يتجنب كل ما يتعلق بها وليس تناولها فقط.
42 - ونحن نفضّل عليه لفظ "الصواب"، الذي هو نسبي، لأنه وكما يقول الطالبي نفسه في عيال الله: لا يعلم الحق، كل الحق، إلا الحق (استعاده في كتاب ليطمئن قلبي، ص.10). انظر
Boudon, R. (1995). Le juste et le vrai: Etudes sur l'objectivité des valeurs et de la connaissance. France: Fayard.
43 - انظر الفاضل بن عاشور، محاضرات، ص.365.
44 - قد يكون النسخ من التحريم إلى التحليل، كما هو الشأن من الشريعة الموسوية إلى الشريعة العيسوية: «ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحلّ لكم بعض الذي حُرِّمَ عليكم»(آل عمران/50). وقد يكون من الإباحة إلى التحريم: مثل حكم شرب الخمر في الإسلام، كما تقدّم: «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه رزقا حسنا وسكرا، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون»(النحل/67)، فذكر السّكر ولم ينه عنه.
(*) كاتب وباحث تونسي
ليطمئن عقلي (2-2)
بقلم الأستاذ: سامي براهم (*)
تنشر «الصباح» اليوم الجزء الثاني والأخير من مقال الأستاذ سامي براهم بعنوان ليطمئن عقلي.
× الدّاعية والعالم
نحن نقدّر غيرة الأستاذ الطّالبي على الدّين ورغبته الملحّة في الدّفاع عن قيمه ومضامينه وحقائقه التي بدا له أنّ الانسلاخسلاميين أرادوا التّشويش عليها وتشويه صفائها، ومن باب إحسان النيّة في صدق طويّته لن نسلّط على مقاربته نفس المنهج الذي توخّاه مع خصومه من خلال البحث عن مقاصدهم الثّاوية في ضمائرهم والكشف عمّا في نفوسهم من أمراض أخلاقيّة ونوازع شرّيرة وعلاقات مشبوهة كانت دافعا وراء ما حوته كتبهم من أفكار، ولكنّنا مع كلّ ذلك نعتقد أنّ ترجمة شعور الغيرة على أيّ معتقد خاصّة إذا كان دينيّا على مستوى الخطاب تختلف باختلاف الموقع والوظيفة والوعي، فخطاب الدّاعية مثلا يهدف إلى التّرغيب عبر دفع المؤمنين إلى الأوامر والطّاعات، والتّرهيب عبر تحذير المؤمنين من النّواهي والمعاصي، ويمكن له في هذا السّياق أن يحذّر المؤمنين ممّا يعدّه خطرا على معتقدهم من كتابات أو أفكار وايديولوجيّات وفلسفات. ويختلف هذا الخطاب الدّعوي باختلاف وعي الدّعاة ومعرفتهم الدّينيّة، أمّا الدّعاة العامّة المقتصرين على الثّقافة النّقليّة التي غالبا ما تكون مذهبيّة شفويّة فينزعون عادة إلى خطاب طهرانيّ حدّيّ قائم على المفاصلة المانويّة والمباينة التّقويّة بين الخير والشرّ والايمان والكفر والطّاعة والمعصية فيكون خطابهم مشحونا بالأحكام الوثوقيّة المطلقة عل العباد والتّهديد والوعيد والفتاوى المسقطة والجنوح إلى الحكم الأقصى في مواجهة المخالف بنسبه إلى الكفر أو النّفاق أو الردّة أو البدعة والفسق في أهون الأحوال. أمّا الدّاعية المتشبّع بقيم التّنوير والتحرّر من الجمود على المنقولات فينزع إلى التّذكير عبر تحريك ملكة التّفكير وتجنّب الأحكام الحديّة خاصّة تلك المتعلّقة بما في ضمائر النّاس.
وقد أورد أبو حامد الغزالي في فيصل التّفرقة بين الإسلام والزّندقة ما نصّه:
فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرّد الفقه يخوض في التّكفير والتّضليل فاعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك فإنّ التحدّي بالعلوم غريزة في الطّبع لا يصبر عنه الجهّال ولأجله كثر الخلاف بين النّاس ... فالتوقّف في التّكفير أولى والمبادرة إلى التّكفير إنّما يغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل".
هذا حال الدّعاة أمّا العلماء الباحثون المشتغلون بالمعرفة ونقد الأفكار فمجال اهتمامهم مختلف بشكل كليّ فلا تعنيهم نوايا أصحاب الأفكار التي يتناولونها بالنّقد والتّحليل ولا ينبشون في ضمائرهم إنّما قصارى ما يطلب منهم العلم تحليل الأفكار بكلّ تجرّد وبيان ما تنطوي عليه من صواب أو خطا من تماسك أو تهافت. نعم يمكن لعالم النّفس أو المحلّل النفّساني أن يُخضع نصوصا ما إلى منهج التّحليل النّفسي ولكن ذلك بغاية الفهم والتّفسير لا الاتّهام والتّشهير وتبقى المقاربة النّفسيّة مجرّد مدخل جزئيّ قاصر عن الإحاطة بظاهرة التّفكير وإنتاج المعرفة، ويبقى للفلسفات والنّظريّات والمقاربات النّقديّة الكبرى - إذا ما تجنّبنا التّفسير التّآمري - أصالتها الذّاتيّة النّابعة من منطقها الدّاخلي القائم على ترتيب الأفكار والحجاج والخطاب بعيدة عن أن تكون انعكاسا آليّا لنوازع الذّات والمصالح .
وحتّى لا يكون كلامنا من باب المزايدة والتّسفيه لمقاربة الأستاذ الطّالبي الذّي نكنّ له الكثير من الاحترام والمودّة وندين له بالكثير من المقاربات التّجديديّة التّنويريّة في صلب التّفكير الإسلامي المعاصر نريد أن نحيله على محاولة جادّة في مناقشة نفس الأدبيّات التي تعهّدها بالردّ ونقصد بذلك ندوة الدورة السّادسة عشر لمجمع الفقه العالمي التي عقدت بدبي في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة بتاريخ 9 - 14 / 4 / 2005 تحت عنوان: القراءات الجديدة للقرآن وللنّصوص الدّينيّة وذلك تحت إشراف الأمين العامّ لمجمع الفقه الإسلامي فضيلة الدّكتور محمّد الحبيب بلخوجة وقد شارك فيها عدة تونسيين بينهم الأستاذ محمّد الهادي أبو الأجفان، بمداخلة عنوانها " القراءة الجديدة لنصوص الوحي ومناقشة مقولاتها"، بالإضافة إلى ثلّة من الباحثين والعلماء من مختلف أقطار العالم الإسلامي. والملاحظ أنّ جميع هذه البحوث والمداخلات لم تنزع إلى تكفير أصحاب هذه القراءات أو وسمهم بصفة المنسلخين عن الإسلام الخالعين لربقته من أعناقهم بل اجتهدت بكلّ عناية في تفكيك آليّات هذا الخطاب ونقده وكشف ما انطوى عليه من ثغرات. وحسبنا دليلا على ذلك ما أورده الدّكتور أبو الأجفان سليل الجامعة الزّيتونيّة في مشروع اللائحة الذي اقترحه في ختام النّدوة، فرغم تنصيصه على ما في هذه القراءات من أخطار على الثّقافة الإسلاميّة فقد أورد من جملة توصياتها ضرورة توسيع الحوار مع أصحابها واتّخاذ وسائل مناسبة مثل عقد النّدوات والمناقشات لإرشاد ذوي القراءات الجديدة إلى التعمّق في دراسة علوم الشّريعة وتكثيف الرّدود العلميّة الجادّة وتشجيع المختصّين على قراءة كتبهم وأخيرا تكوين خليّة عمل تابعة لمجمع الفقه تؤسّس مكتبة لمؤلّفات هذه القراءات والرّدود عليها... تمهيدا لكتابة الرّدود والبحوث الجادّة.
* الانتماء إلى الملّة أو المواطنة
لعلّ أخطر ما في مقاربة الأستاذ الطّالبي حسب تقديرنا هو نكوصها عن قيمة المواطنة التي نشط خطاب النّهضة العربيّة منذ الطّهطاوي في ترسيخها في الفكر العربي واجتهد المفكّرون الإسلاميّون المعاصرون في تأصيلها باعتبارها رابطة بديلة عن الانتماء الملّي. بينما يصرّح الأستاذ الطّالبي أنّ "كلّ من يرفض أن يوجّه وجهه نحو القبلة ليس من أمّتنا وليس له أن يملي علينا كيف نضطلع بالحداثة وكيف نمارسها وكيف نتعامل معها" فالأمّة حسب فهمه هي أمّة المؤمنين المشهود لهم بصدق الإيمان والمقيمين للفرائض، هؤلاء وحدهم لهم الحقّ في الاضطلاع بدور النّهوض والتّحديث. وفي مقابل ذلك فإنّ " الذي لا يصلّي وينكر الصّلاة ولا نشاهده في صفوفنا على الصّراط المستقيم ليس منّا ولسنا منه وفرض عين على كلّ مسلم أن يؤكّد ذلك بوضوح... وكلّ من لا يسلك الصّراط المستقيم على النّحو الذي أمر به الله فقد انسلخ عن الإسلام بمحض إرادته " وانسلخ تبعا لذلك عن انتمائه إلى الأمّة، وبذلك يعود بنا الأستاذ الطّالبي إلى جدل حسبناه ولّى وانتهى - على الأقلّ في السّاحة الثّقافيّة والسّياسيّة التّونسيّة - حيث المواطنة فيه بدعة غربيّة لأنّها تساوي بين المؤمنين والملحدين والمختلفين دينيّا ومذهبيّا وسياسيّا وفكريّا في الحقوق والواجبات دون تمييز أو تفاضل أو محسوبيّة، شركاء جميعهم في البحث عن سبل نهضة الوطن ورسم السّياسات الكفيلة بنقله إلى الأمم المتقدّمة. لقد أصبحت المواطنة اليوم ولنعلنها بكلّ وضوح فرض عين سياسي وثقافي وديني بما تضمنه من حريّة المعتقد وحقّ الاختلاف والغيريّة والعيش سويّا ودخول جميع المتباينين في عقد ولاء اجتماعي سياسي لا يمنح فيه الانتماء الدّيني أو المذهبي أو الثّقافي أو السّياسي أو الجهوي أو العرقي... أيّ شكل من أشكال الامتياز أو التّفاضل في هيئة الانتظام الاجتماعي والقوانين المنظّمة له والوظائف الاجتماعيّة والسّياسيّة فذلك لا يتمّ بمقتضى ما يختاره أفراد المجتمع من عقائد وأفكار إذ الكلّ متساوون بحسب امتثالهم لما اتّفقت المجموعة على أنّه مصلحة عامّة. ويبقى للحراك الثّقافي والاجتماعي والسّياسي وما يحدثه من تدافع متكافئ وتنافس سلميّ نظيف دور إحداث التّراكم المعرفي وفرز الأطروحات المتماسكة وترشيحها عبر الإرادة الشّعبيّة للقيام بأدوار متقدّمة على غيرها من الأطروحات. ولكن أهمّ ما يوفّره هذا الحراك في ظلّ قيمة المواطنة هو التّواصل بين الفرقاء وما يؤدّي إليه من تجاوز التّباغض والتّدابر وسوء الفهم والاحتراب الدّاخلي، ثمّ تبادل الخبرات وما يؤدّي إليه ذلك من توسيع دائرة النّظر والاختيار والتّثاقف والنّقد الذّاتي والمراجعات. لا قيمة للثّقافة حسب تقديرنا إذا كانت سببا في تسميم الحياة الثّقافيّة والاجتماعيّة ولم تساهم في تحقيق السّلم والتكافل والتّواصل بين أفراد المجتمع وإن كانوا مختلفين.
× سياسة المكيالين ولاهوت قتل الحوار
" أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" (سورة النجم الآية 21 22)
لم تقتصر مقاربة الأستاذ الطّالبي - القائمة على المفاصلة والمباينة - على الدّاخل الثّقافي فحسب بل تجاوزته إلى أصحاب الدّيانات الأخرى السّماويّة على وجه الخصوص في ردّ على المستشرقين وعلى البابا بونوا 16. والعجب من الأستاذ أنّه يحلّ لنفسه ما يحرّمه على الآخرين إذ أعاد صياغة كلّ الأفكار التي دحضها عن الإسلام لينسبها إلى الدّيانة المخالفة ورموزها. فكلّ ما نفاه عن نبيّ الإسلام من تهم كالها له المستشرقون نسبه إلى عيسى الذي جاء - حسب ما فهمه الأستاذ الطّالبي من آيات الإنجيل - ليضرم النّار في الأرض ويعمل فيها السّيف ويكره النّاس على الدّخول في الملكوت. أمّا بولس الرّسول فقد نال الحظّ الأوفر من المقاربة التّحليليّة النّفسيّة التي خصّصها لفهم ظاهرة الوحي النبوّة. والعجيب أنّه بذل قصارى جهده المعرفي في دحض هذه المقاربة النّفسيّة عندما تعلّقت بنبيّ الإسلام وما نسب إليه من صفات الهلوسة والتّخمير وفي مقابل ذلك بذل نفس قصارى الجهد لإلصاقها ببولس، فهو شخصيّة فصاميّة أصيب بضربة شمس قويّة أفقدته بصره فانهارت قواه الرّوحيّة والجسديّة ثمّ انخرط في حالة من الهلوسة، وجعلته بنيته النّفسيّة الفصاميّة يشعر بصدق المشاعر الدّينيّة غير العقلانيّة التي انتابته. ثمّ يكيل لبولس كلّ الصّفات البغيضة من قبح المظهر وقصر القامة وتقوّس السّاقين والعقد النّفسيّة والغمش الهستيري والجنون الدّينيّ والصّرع والمسّ من الجان والوسواس والكبرياء والغرور والعُجب وحبّ الظّهور والوقاحة.
ثمّ يفسّر الأستاذ بكلّ ثقة ما يعدّه المسيحيّون وحيا ضربا من الهلوسة التّخاطريّة فقد سمع بولس صوت ضميره الباطنيّ ويتساءل بكلّ عقلانيّة " من منّا لم يسمع قطّ في حياته صوتا من دون أن يرى شخصا؟... وليس من النّادر أن يسبق النّوم سماع أصوات ورؤية وصور... كلّ شيء بدأ بضربة شمس ومنها انطلق"
بهذه المضامين يؤثّث الأستاذ الطّالبي عنوان فصله لاهوت الحوار ونستغرب كيف يكون هذا اللاهوت مفضيا للحوار وقد انتهج خطاب السبّ والقذف لشخصيّة يقدّسها الطّرف المعنيّ بالمحاورة ونستغرب أكثر بأيّ منطق يسوّغ لنفسه إلصاق نفس التّهم التي ينفيها عن نبيّ الإسلام بشخصيّة دينيّة اعتباريّة في مقام بولس الرّسول عند المسيحيين؟؟؟ هو منطق لا يقوم حسب تقديرنا على العدل والانصاف المنهجي فضلا عن أنّه لا يؤسّس أخلاقا للحوار بين الأديان. لقد تراجع الأستاذ الطّالبي عن كلّ المضامين التّنويريّة التي أثّث بها ندوات الحوار بين الأديان ونشر بعضها في مجلّة لأفهم COMPRENDRE أو إيسلاموكريستيانا التي كنّا نتلقّفها بكلّ شغف لنتطلّع إلى خطاب إسلاميّ جديد يؤمن بالمغايرة والتّعايش بين الأديان في كنف الاحترام المتبادل وتعميق التّجربة الرّوحيّة بالانفتاح في ما بينها.
ما الذي يفسّر كلّ هذه المفارقات في كتاب الأستاذ الطّالبي؟ هل هو الغضب من كتابات من أسماهم بالانسلاخسلاميين وتصريحات البابا بونوا 16 المثيرة للجدل عن الإسلام؟
لقد تساءل الأستاذ الطّالبي بكلّ حرقة الغيور على الدّين في سياق تعليقه على أحد آراء من عدّهم من الانسلاخسلاميين " كيف لا نعتبر قوله وقاحة في حقّنا ؟ كيف لا يثيرنا ولا يغضبنا قوله ؟ فهل كان ما دوّنه أستاذنا في كتابه "ليطمئنّ قلبي" استجابة لسورة الغضب التي انتابته فاختلّت موازين المنهج النقدي العلمي الذي طالما حرص هو وبقيّة الأساتذة الذين تتلمذوا عليه أن يدرّبونا عليه ؟ أليس مدلول الآية " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " الأعراف (8) حاسما في الدّعوة إلى ضرورة انتهاج العدل مع الخصم وعدم مقابلة شنآنه بالمثل ؟ أليس إنتاج المعرفة ضربا من الشّهادة التي تستدعي من المفكّر أن يكون شاهدا بالقسط مخضعا كلّ هواجسه الفكريّة وخطراته المعرفيّة إلى ميزان العدل القائم على الضّبط والرّبط المنهجيّين والتنزّه عن الحميّة والنّزعة الانتصاريّة والدّفاعيّة وتنسيب الحقائق وموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول؟
لقد انتهج الأستاذ الطّالبي مسلكا خاصّا ليُطَمْئِنَ قلبه قائم على الخلط بين المعتقد الدّيني والعلم، بين الإيمان الدّينيّ ومنهج النّقد الموضوعي، أمّا ما نفهمه من سياق تجربة النبيّ إبراهيم من الشكّ إلى اليقين - وقد نسب له القرآن قوله " بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " فهو: لا يَطْمَئِنُّ قلبي حتّى يطمئنَّ عَقلِي.
(*) باحث في الجامعة التّونسيّة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.