لا يسع المطّلع على بعض ما يُكتب دوليًّا هذه الأيّام في شأن الثورة التونسيّة والمصريّة إلاّ أن يقف على ارتباك الكثير من مثقّفي الغرب، دون تعميم طبعًا، في أمريكا وفي أوروبا وخاصّة في فرنسا، حيث اعتدنا أن نرى «مفكّري الفضائيّات» مثل غلوكسمان وفينكلكراوت وبرنار هنري ليفي يسارعون إلى مساندة غزو العراق باسم نشر الديمقراطيّة ويبرّرون قصف غزّة باسم «السلام» و«الحرب على الإرهاب»، ثمّ إذا هم فجأة يلوذون بالصمت أو يتكلّمون بالكثير من التشكيك والاحتراز حين يتعلّق الأمر بثورة الشعبين التونسيّ والمصريّ. ارتباك لاحظه الفرنسيّون أنفسهم وظهرت ملامحه في صحف عديدة مثل لوموند وليبيراسيون وخصّته الإكسبريس بعرض لمختلف المواقف، من استنتاجاته أنّ هؤلاء المثقّفين ارتبكوا في موقفهم من هذه الثورة بسبب خوف البعض من الفزّاعة الدينيّة، وبسبب إيمان البعض الآخر بفكرة تكاد تتحوّل إلى قناعة، مفادها عدم قدرة العرب على الديمقراطيّة، لأنّها في نظرهم لا تتلاءم مع طبيعة العربيّ وتحديدًا العربيّ المسلم. إلاّ أنّ لهذا الارتباك في نظري العديد من الأسباب الأخرى غير المُعلنة. ومن بين هذه الأسباب الرؤية التي ما انفكّ هؤلاء المفكّرون يسعون إلى ترويجها منذ سنوات، باسم السلام مرّة وباسم الدفاع عن الحياة مرّة أخرى، والمتمثّلة في إلغاء ثقافة المقاومة ومفرداتها وآليّاتها من قاموس الشعوب العربيّة تحديدًا، باعتبارها دعوة إلى الموت ونقيضًا لحبّ الحياة. كيف يمكن لمثقّفين كرّسوا سنوات من عمرهم لتأثيم الموت من أجل فكرة أو قضيّة، أن لا يرتبكوا أمام ثورة أوقد شرارتها الشهداء؟ كيف يسعهم أن لا يرتبكوا أمام محمد البوعزيزي، الشهيد الرمز الذي أصبح عنوانًا على سلسلة من المقاومين الذين فضّلوا النار على العار، وقدحوا شرارة ثورة لم تنتظر تأشيرة المصالح الأمنيّة أو مفاوضات الاستسلام كي تطالب بالحريّة والكرامة وتزرعهما على أرض الواقع. الارتباك نفسه أحسّ به مثقّفون عرب كثيرون كانوا منذ سنوات صدًى لهؤلاء، فإذا هم يسارعون كزملائهم إلى التركيز على الفروق والفويرقات بين العمليّات الاستشهاديّة أو الفدائيّة أو الانتحاريّة وما قام به محمد البوعزيزي. وهي فروق موجودة طبعًا لكنّ في التركيز عليها في مثل هذا التوقيت غير المناسب، ما يؤكّد الارتباك أكثر ممّا ينفيه. ولعلّ في ذلك ما يشير أيضًا إلى فكرة أخرى متغلغلة في بعض العقول، قد لا نجد تصويرًا كاريكاتوريًّا لها أفضل من قول أندري مالرو في مذكّراته: «إنّ العرب مصادفة في تاريخ البشريّة، والدليل على ذلك أنّهم غير قادرين حتّى على الانتحار»!! يا للهول!! ها أنّ العرب لا يكتفون بالانتحار بل يجعلون منه فعلاً بنّاءً وقادحًا للثورة!! مثلما هو شأن البشريّة منذ روما وقرطاج!! فكيف لا يرتبك المرتبكون؟ والحقّ أنّ مالرو وأتباعه (من العرب أيضًا) قد عبّروا عن الكثير من التسرّع في ما ذهبوا إليه. وليس من شكّ في أنّ أدبيّات كثيرة غابت عنهم. ولو أتيح لهم أن يطّلعوا على «الهوامل والشوامل» مثلاً لأدهشهم عمق النظر الذي خُصّت به هذه المسألة منذ قرون. «ما السبب في قتل الإنسان نفسه عند إخفاق يتوالى عليه وفقر يحوج إليه وحال تتمنّع على حوله وطوقه وباب ينسدّ دون مطلبه ومأربه... » هكذا يبادرنا التوحيدي في بداية إحدى مسائله. وما سبب الجزع من الموت وما سبب الاسترسال إلى الموت؟ هكذا يسألنا في موضع آخر، ليقول: «الجزع من الموت على ضروب وكذلك الاسترسال إليه. وبعضه محمود وبعضه مذموم. وذلك أن من الحياة ما هو جيّد محبوب ومنها ما هو رديء مكروه، فيجب من ذلك أن يكون ضدّها الذي هو الموت بحسبه: منه ما هو حيال الحياة الجيّدة المحبوبة فهو رديء مكروه، ومنه ما هو حيال الحياة الرديئة المكروهة فهو جيّد محبوب». كلام لابدّ من تنزيله في سياق عصره وتاريخه طبعًا. إلاّ أنّه يمسك بجوهر المسألة التي يطرحها الراهن. إذ ما أن تُوصد أبواب المستقبل حتى تخلو الحياة في الحاضر من أيّ دافع لاستمرارها. وما أن تصبح الحياة سجنًا في شكل قبر حتى يصبح الخروج منها فعل تحرّر. وهو من هذه الناحية، طريقة الممنوع من الكلام كي يتكلّم، ووسيلة المقهور للانتصار على قاهره بالابتعاد عنه إلى حيث لا يمكن أن يستمرّ في قهره. إنّه فعل قد يبدو في ظاهره ناشئًا عن اليأس، وقد يكون كذلك بالنسبة إلى الفرد نفسه الذي لا يطمع في مصلحة شخصيّة من وراء فعله، لكنّه حين يتحقّق كأمثولة ممكنة فإنّه يبدو على النقيض من الانطباع الأوّل، فعلاً مبنيًّا على أمل كبير. أمل في أن لا يذهب ذلك الفعل هدرًا، وأمل في أن يكون قادحًا لشرارةٍ تتحقّق من ورائها المصلحة العامّة. وهو ما حدث فعلاً في لحظة اتّضح أنّها كانت اللحظة المناسبة، حين التقطت جموع الشعب التونسيّ رمزيّة استشهاد البوعزيزي وأخوته الأبرار ورفعتها راية لنهوضها وثورتها. إنّ ما قام به محمد البوعزيزي لم يكن انتحارًا بالمعنى السائد لهذه الكلمة ولم يكن هربًا من الواقع المرير بل كان رفضًا للاستسلام ومواجهة للجلاّد بالوسيلة المتاحة للمحروم من كلّ شيء سوى جسده. وهو من ثمّ تمجيد لفكرة المقاومة التي بدونها لا فرصة للحريّة ولا حصانة لها. وبرهان آخر على أنّ حبّ الحياة شعار يمكن إفراغه من كلّ معنى إذا لم يكن الإنسان مستعدًّا للموت من أجله.