من الأكيد أن حياة المواطن التونسي بعد الثورة ليست هي ذاتها قبلها ومما لا شك فيه أيضا أن الجميع قد شعر ببعض التحولات والتغيرات النفسية وحتى الصحية. فالوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد بعد 14 جانفي تغير وحمل في طياته بعض التفاصيل التي أثرت بشكل أو بآخر على المواطنين التونسيين. فكثرة الإشاعات والخوف المنجر عن غياب الأمن والفوضى التي تشهدها العاصمة وبعض المدن الداخلية كالانتصاب العشوائي للباعة وتكاثر وتعدد عمليات «البراكاجات» في الطرق السيارة والطرق العادية وفي واضحة النهار وغياب أعوان الأمن تسبب في الإحساس بالتوترات والمخاوف الكثيرة والتي تتفاوت حدتها من شخص إلى آخر بالإضافة إلى الشعور بالخوف من المستقبل لدى فئة هامة من المجتمع التونسي وخاصة العاطلين عن العمل الذين يرون عددا من المصانع والمؤسسات الاقتصادية معطلة عن العمل بسبب اعتصام العمال وتواصل الاحتجاجات فهم باختصار يرون المستقبل ضبابيا وغير واضح بسبب عدم وضوح الرؤية بشكل عام. هذا دون نسيان الروتين الذي أصبح يعيشه التونسي جراء خوفه من الخروج والتنزه وبقائه أطول وقت ممكن في المنزل دون ترفيه أو تغيير الأجواء الأسرية والعائلية مما جعل وتيرة المشاكل بين الأزواج ترتفع في الفترة الأخيرة. والسؤال المطروح الآن كيف يمكن تجاوز هذه الاضطرابات النفسية ونعيد للتونسي إحساسه بالثقة والتفاؤل وجعله يتخلى عن شعور الخوف من المستقبل؟. «الشروق» اتصلت بالدكتور عماد الرقيق المختص النفسي لشرح الموضوع وتقديم الحلول العملية لتجاوز هذا الواقع النفسي الضبابي الذي يعاني منه بعض التونسيين. يقول الدكتور عماد الرقيق في بداية حديثه إنه لا بد من الإشارة إلى أن كل ثورة وتجديد في الحياة العامة يشعّ في نفوس الناس الفرحة والأمل بمستقبل ناصع وأفضل والأمل بالقطع مع الماضي الأليم والصعوبات الفائتة وما عاناه الشخص سابقا من فقر أو عدم التعبير عن الذات أو القهر أو التهميش وعدم التفهم. فالأمل هو الوقود والمحرك وشعلته لا بد أن تبقى مضيئة في نفس كل فرد من أفراد المجتمع حتى تكون الاختلالات النفسية والقلق النفسي حافزا يدفع الجميع إلى الأمام أي للعمل والمثابرة والانطلاق نحو مستقبل واعد وأفضل وعدم الاستسلام لأي تشاؤم أو فكر انتكاسي واكتئابي يجعل الفرد متخوفا ويائسا وحائرا وغير مندفع إلى الأمام. تأثرات مختلفة ومع ذلك توجد لهذه الثورة ولكل انتفاضة شعبية ضد كل ما كان سائدا (ظلم وقهر واستبداد) بعض التغييرات النفسية التي تصاحبها والتي لا يمكن تعميمها لأنها تختلف من فرد إلى آخر حسب نفسيات الأشخاص أولا وحسب تطور الأحداث والمناخ العام ثانيا. فكلما تحسنت الأوضاع العامة كلما كانت النخوة والاعتزاز والشعور بالثقة في النفس وفي المستقبل أكثر وأحسن. كما نشير إلى أن تأثر الناس والأشخاص بالأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يكون مختلفا من شخص إلى آخر وعموما يمكن أن نتحدث عن ثلاثة أنواع من الناس حسب تأثرهم بالتغيرات الجارية وهذه الأنواع هي : أولا : يمكن أن نتحدث عن الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية وهي شخصيات تعاني من بعض الإشكالات النفسية الخفيفة أو العميقة ويمكن وضعها في خانة الشخصيات غير التامة نفسيا وهذه الفئة يكون تأثرها بما يجري أكثر بكثير من الأشخاص العاديين ولكن هذه الفئة عادة ما تبتعد تلقائيا عن المواقف القوية والصعبة ولها طرق دفاعية عديدة حتى لا تتأثر أكثر وتمرض أكثر وهذه الفئة من الناس تحتاج أيضا إلى وقوف العائلة إلى جانبها لتخفف من إحساسها بالحزن والاكتئاب وتساعدها على مواجهة الصعوبات. ثانيا : هناك شخصيات «عادية» أو وسطية تتقبل هذه الأمور وتشارك فيها ولا يكون التأثر إلا محدودا ولكن بعضها قد يصاب باكتئاب حاد أو قلق أو صدمة وذلك خاصة إذا ما تعرض هذا الشخص بصفة ذاتية إلى أمر مخيف وصادم أو حضر أو شاهد أمرا أثار في نفسه بعض المشاعر القوية كالحزن أو الخوف أو الإحباط وهنا لابد من الإسراع في التعبير والحوار والفضفضة للتخلص من كل هذه التراكمات النفسية السلبية سواء مع العائلة أو الأصدقاء أو معالج نفساني. ثالثا : هناك شخصيات مندفعة وثورية وشجاعة وهي شخصيات لا تتأثر عادة كثيرا بهذه الاهتزازات رغم ما بداخلها من قلق وتوتر وخوف لأنها متعودة على الإقدام والشجاعة والبسالة بل إن تأثرها يكون ايجابيا جدا وعادة ما تعتريهم مشاعر الفرحة والنخوة والاعتزاز ويشعرون بالتوقد والحيوية أكثر من ذي قبل. وما هو مطلوب من هذه الفئة هو التحلي بالرصانة والحكمة وعدم التهور بحيث يمكنهم أن كونوا أكثر عقلانية وتوازنا ومتحكمين أكثر في مزاجيتهم وانفعالاتهم وحتى في أفكارهم. التخلص من التوترات وبصفة عامة يمكن أن يعاني الأطفال والشيوخ والنساء من حالات توتر وخوف وقلق جراء الأوضاع الاجتماعية والسياسية غير المستقرة ويمكن أن تصل هذه الحالات إلى درجة الاكتئاب والفوبيا (فوبيا الخروج إلى الشارع أو سماع الأخبار والإشاعات) فتظهر على أفراد هذه الفئة من الناس أعراض اضطرابات النوم والامتناع عن الأكل وعدم الرغبة في التحدث مع الآخرين وعدم القدرة على فهم واستيعاب ومراجعة الدروس بالنسبة إلى التلاميذ والشعور بالصدمة. ويمكن التحكم في هذه الاضطرابات بسرعة من خلال التفريغ أي رواية كل ما شاهده الشخص وما يجول بداخله من أفكار ومخاوف وتصورات أو أحلام (أحلام وكوابيس يراها الأطفال في المنام). ولمساعدة هؤلاء الأطفال على تجاوز مثل هذه الحالات علينا تجنيبهم أولا مشاهدة الأخبار ومتابعة المظاهرات والاعتصامات وثانيا بتوجيههم نحو ممارسة بعض الهوايات كالرسم واللهو ببعض الألعاب الالكترونية واليدوية. أما بالنسبة إلى فئة النساء والشيوخ فإن التآزر الأسري والعائلي والتكثيف من الزيارات العائلية وخلق أجواء أسرية جديدة بعيدة عن التوتر وتداول ما يتناقله الناس من إشاعات وأخبار من شأنه مساعدة الجميع على استرجاع الثقة بالنفس والتخلص من التوتر والقلق وبالتالي استعادة التوازن النفسي المفقود بسبب تواتر الأحداث غير المرغوب فيها في الفترة الأخيرة.