نتصفّح قائمات أكثر قادة العالم تزييفًا للانتخابات وأكثرهم سرقةً لأموال الناس، فنعثر دائمًا على رئيس عربيّ في المرتبتين الأولى أو الثانية. وهم لا يغيبون طبعًا عن قائمة أكثر رؤساء العالم تشبّثًا بالكرسيّ، حيث نجد فيدال كاسترو (49 سنة في الحكم) وكيم إيل سونغ (46 سنة في الحكم) ويأتي بعدهما مباشرة القذافي (42 سنة في الحكم)!! أي أنّهم لا يحقّقون سبقًا إلاّ في كلّ ما يندى له الجبين، فإذا هم جزء دائم من «بوديوم» المخازي! هذا إن لم يفوزوا بميداليّات «البوديوم» كلّه! ويبدو أنّ القذافي في طريقه إلى التفوّق على زملائه في ممارسة الإبادة الجماعيّة وارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، والاستهانة بدماء الشعب، وإلاّ فكيف يمكن أن نصف هذا المشهد الليبيّ الذي يفوق الخيال: مشهد شعب باسل متلاحم يهدر صارخًا بشوقه إلى الحرية والكرامة ومشهد جزّار يكدّس جثث أبناء شعبه في الشوارع مؤكّدًا أنّه لم يستعمل ضدّهم العنف بعد!! مشهد شعب يرفع رأسه عاليًا ومشهد طاغية لا يكتفي بتحقير شعبه وتخوينه وتخويفه، بل يهدّده بالإبادة من على شاشة التلفزيون، على مرأى ومسمع من العالم!! لو لم يكن الأمر بشعًا فوق القدرة على التحمّل لأضحك الجميع، ولذكّرهم بفيلم الدكتاتور الذي لم يفقد توهّجه منذ خرج به شارلي شابلن على الناس سنة 1940. في ذلك الفيلم يبدو الديكتاتور على حقيقته تمامًا: مريضًا بالوهم مجنونًا بالعظمة يهذي أمام الموهومين بكاريزميّته الوهميّة متصوّرًا أنّه السوبرمان الأوّل والأخير. استطاع شابلن أن يضع هذا الوجه الطاووسي في تقاطع وحوار مع حقيقته الواقعيّة التافهة والرديئة، ومن ثمّ نشأت قدرة الفيلم على الإضحاك على الرغم من جديّة الموضوع وسياقه التاريخيّ القاتم. إلاّ أنّ مشهد القذافي وهو يخطب لم يعد يضحك أحدًا. فالواقع مختلف عن السينما، والصبر نفد، والجنون زاد عن كلّ حدّ، والدم المهرق أكثر مما يُحتمل. وإذا كان لهذا الخطاب أن يثير إحساسًا ما، فلعلّه الإحساس بالحيرة المُطلقة التي من الجائز أن تنتاب الجميع أمام طول صبرهم على طُغاتهم، والتي عبّر عنها أحد الأشقّاء الليبيّين أفضل تعبير حين سأل بعد خطاب القذافي الأخير: كيف أمكن لرجل مثل هذا أن يحكمنا طيلة أربعين عامًا؟ يقرأ البعض التاريخ فيغريه القول بفشل الثورات بشكل عامّ، مؤكّدًا أنّها على امتداد الجغرافيا والتاريخ لم تفض حتى الآن في أفضل الأحوال إلاّ إلى إنتاج مجتمعات هجينة، يحلّ فيها رأس المال محلّ الطاغية من وراء أكسسوارات ديمقراطيّة يزداد في سياقها استفحال الميز الاجتماعي وإفقار الأغلبيّة وتهميشها وإبعادها عن مراكز القرار. والحقّ أنّ فشل الثورات ممكن، بشهادة التاريخ، لكنّه ليس أمرًا حتميًّا كما يروّج البعض انطلاقًا من هذه القراءة السوداويّة للتاريخ. وكما كانت الثورة التونسيّة مختلفةً في معطيات انطلاقها وفي آليّات سيرورتها حتى الآن، فإنّ من الممكن لها أيضًا أن تتجنّب الفخاخ التي جعلت ثورتي فرنسا سنة 1789 وسنة 1848 تؤولان إلى عودة الملكيّة ثمّ إلى ظهور الإمبراطوريّة الثانية، وثورة روسيا سنة 1917 تؤدّي إلى قيام الدكتاتوريّة، وثورة إيران تفضي إلى ولاية الفقيه. ولعلّ القول بفشل الثورات راجع في أحيان أخرى عديدة إلى خطإ في التشخيص. مثلما حدث حين ظنّ البعض أنّ مجيء القذافي إلى حكم ليبيا كان ثورة، بينما هو مجرّد انقلاب استمرّ طيلة عقود، مستعملاً مفردات الثورة وشعاراتها بوصفها مجرّد أكسسوارات لا علاقة لها بالواقع. من ثمّ شرعيّة السؤال: كيف انطلت الخديعة كلّ هذه المدّة؟ كيف لم نكاشف الملِكَ بعُرْيِهِ منذ البداية؟ كيف أمكن تحمّل مثل هذا الطغيان طيلة هذا الوقت؟ سؤال من الجائز بل من الضروريّ أن يطرحه جميعنا من المحيط إلى الخليج، لا لفهم ما حصل ولا للاعتبار من التاريخ فحسب، بل لفهم حاضرنا وتحصين مستقبلنا أيضًا. سؤال قد لا يكون المجتمع الدولي أقلّ المعنيّين به: كيف أجاز لنفسه الصمت عن هؤلاء كلّ هذا الوقت؟ لقد أعربت الآليّات الامميّة والديبلوماسيّة العالميّة مرّةً أخرى عن ازدواجيّة معايير المجتمع الدوليّ وموازينه، وعن قدرته العجيبة على الفرجة على المجازر والجرائم الإنسانيّة، دون أن يرفّ له جفن حقيقيّ، في انتظار أن تجري الرياح الدامية في اتّجاه أو آخر، ولو على حساب عشرات الآلاف بل الملايين من الأرواح البشريّة. بعد تونس ومصر وليبيا والقادم قادم، وبعد أن عصف خريف البطارقة بالكثير من طغاة المجتمع الدوليّ المدلّلين باسم الاستقرار والمصالح إلخ...على هذا المجتمع الدوليّ أن يتغيّر وأن يعيد النظر في الكثير من آليّاته وأدواته وأن يفهم هو أيضًا أن الشعوب تصرخ في وجهه: ارحل!