انقضّ «المحن» كما هو مُتوقَّع على صورة «الهرَم المخلوع» حسني مبارك وهو يحضر محاكمته راقدًا على محفّة طبيّة من خلف القضبان الحديديّة. وكالعادة عبّرت التحليلات عن وجهتي نظرٍ أساسيّتين: الأُولى تُهلِّل لهذه «الصورة التاريخيّة» والثانية تُندِّد بها! وجهةُ النظر الأولى عبّرت عنها ماينا كياي في صحيفةٍ كينيّة حين أشارت إلى أنّ مشهد مبارك «في وضعٍ شبيهٍ بوضع الحيوانات في قفص حديدي» كان «صدمة علاجيّة لقارة إفريقيا المريضة»، مضيفةً إنّ الأغلبيّة مسرورة بذلك «حتى وهي تدرك أنّ المجلس العسكريّ يُواصل عمله كالمعتاد ولكن دون أن يكون مبارك في الصورة»! أمّا وجهةُ النظر الثانية فعبّر عنها الصحفيّ البريطانيّ روبرت فيسك حين احترز من الطريقة التي تتمّ بها هذه المُحاكمة، مضيفًا: «إنّ ما يحدث هو استعادة الممارسات القديمة»، وهي «قطعة حلوى يتوجّه البعض إلى الثوّار وكأنّه يقول لهم أنتم تريدون أن تروا مبارك في المحكمة وها نحن نتيح لكم ذلك، والآن عودوا إلى العمل وإلى بيوتكم»! لا يهمّني هنا مضمون الرأيين على الرغم من أهميّته، بقدر ما يهمّني أن أنتقل إلى سياق أوسع لأطرح على هؤلاء المحلّلين السؤال التالي: أين نصيبُ الشعب من الصورة، باستثناء صورته الاستهلاكيّة المزيَّفة على امتداد عقود؟ يختلف الطُّغاة تاريخًا وجغرافيا ومواهب وأكسسوارات ودرجةَ استبداد إلاّ أنّهم يتشابهون أمام عدسة المُصوّر، وكأنّهم تجسيد لفكرة التقمّص أو التناسخ من ستالين إلى ماو وصدّام وبن علي والقذّافي وعلي عبد الله صالح والأسد. نكاد لا نلمس الفرق بينهم كما يبدون في صُوَرهم حتى حين يُضطرّون إلى تقاسم البطولة مع زوجاتهم كما هو الشأن في صورة شاو سيسكو وزوجته وصورة بن علي وزوجته وصورة حسني مبارك وزوجته إلخ، حيث يواجهنا نفس القناع البلاستيكيّ المتطاوس المتعالي الذي ينظرُ دون أن يرى. ثمّة في هذه الصُّوَر ما يُغري بقراءتها من زاويتين: زاوية خوف الحاكم من حضور المحكوم وكأنّ غياب المحكوم شرطٌ من شروط حضور الحاكم، فإذا الصورةُ كادرٌ حديديّ يحيط بفضاء مُغلق يحتلّه الحاكم وينفرد ببطولته هو وبطانته ولا مكان فيه لأحد سواهم. وزاوية خوف الحاكم من أن ينساه المحكوم لذلك ينتصب «فخامتُهُ» جدارًا يحول دون العين ودون الأفق من كلّ جهة، مذكّرًا بنفسه في كلّ حائط، في كلّ مفترق طرق، في كلّ شارع، في كلّ مكتب، عن طريق صورةٍ تَقْرَعُ العينَ حدّ العمى مثلما تقرع العصا الطبل حدّ الانفجار. فما الذي تغيّر في صُوَرِ ما بعد الثورة، باستثناء إحلال أشخاصٍ محلّ أشخاصٍ آخرين، دعايةً لهم أو تشهيرًا بهم؟ وأين الشعبُ المُغيّب؟ ولماذا يتواصل تصدُّرُ حُكّامِه السابقين أو اللاحقين المشهد؟ يقف السجّان أمام سجينه فيراه من خلف قضبان لكنّ السجين أيضًا يرى سجّانَه من خلف قضبان. والحُرُّ فيهما هو من يعرف التمييز بين صورة الحريّة وحقيقتها. ولن تصبح الصورة برهانًا على التغيير الحقيقيّ إلاّ حين يحضر الغائب أي الشعب أي نحن. أمّا ما يحدث حتى الآن فليس سوى ترسيخ لاحتكار الصورة من قِبل محتكري السلطة مع فارق أنّ هذا الاحتكار كان يتمّ باسم الاستبداد ويريد له البعض اليوم أن يتمّ باسم الثورة. حتى الأحزاب الجديدة وهي تمارس الدعاية لنفسها تجد صعوبةً في كسر الصورة النمطيّة للزعامة كما رسّخها النظام الاستبداديّ. ثمّة استثناءات طبعًا لكنّ إعادة إنتاج النمط سمة مهيمنة على أغلب الصور. نكاد لا نرى في صدارة الكادر غير الكوادر، ونكاد لا نرى في الخلفيّة وجهًا من وجوه أصحاب البلاد، وكأنّ البلاد خالية من السكّان أو مجرّدُ علَمٍ في صالون فخم أو مشهد من مشاهد البطاقات البريديّة! وإذا رأينا وجوه عدد من المواطنين في بعض هذه الصور فهي مُصوّرة في وضعيّات مفتعلة توحي بأنّنا أمام ممثّلين ولسنا أمام مواطنين. لكأنّنا أمام رغبةٍ متواصلة في إخلاء الصورة من الشعب وجعلها حكرًا على الحاكم، حتى وهو مخلوع، حتى وهو مجرّد حاكم انتقاليّ، حتى وهو مجرّد مشروع حاكم. وحين تَضطرُّ الأحداث إلى تصوير الشعب فإنّ ذلك لا يتمّ إلاّ على طريقتين: إظهارُه في شكلٍ همجيٍّ كي يكره رؤية وجهه في المرآة أو تزييفُهُ في عين نفسه تحت طبقات من الماكياج وإجبارُه على الابتسام كي «تطلع الصورة حلوة». ذلك ما نراه في أغلب الصور واللافتات الإشهاريّة والملصقات الدعائيّة الرائجة هذه الأيّام، مع احترام الاستثناءات القليلة. أمّا الكلمات والحركات المُصاحبة فهي تبدو جزءًا من لوازم ألعاب الخفّة التي يتقنها المشعوذون لتلهية العين وإتخامها إلى درجة العمى انطلاقًا من أنّ الإفراط في الصورة يقتل الصورة. وكأنّنا أمام إبهار سمعيٍّ بصريّ لا هدف له إلاّ صرف الأنظار عن الحقيقة المرّة، حقيقة مواصلة تغييب الشعب عن الصورة قبل الثورة وبعدها.