أجبر رئيس الجمهورية التونسية السابق على الفرار الى خارج البلاد مساء يوم 14 جانفي 2011 اثر الثورة الشعبية العارمة التي عمت جميع ربوع البلاد بعد أن تولى حل الحكومة التي كانت قائمة آنذاك وبقي الشعب يعاني تلك التركة القانونية والسياسية التي خلفها له ذلك الرئيس المخلوع ،وقد كانت طريقة خروجه من السلطة آخر خرق من طرفه لدستور البلاد تلك الطريقة التي تخلى بمقتضاها عن رئاسة البلاد الا وهي الهروب دون ان يكلف نفسه حتى تقديم كتب استقالة أو الاعلان عن تنحيه للشعب التونسي، فالهروب الذي اعتبره المجلس الدستوري من قبيل الاستقالة لإسناد رئاسة الدولة لرئيس مجلس النواب بصفة وقتية لا يمكن مطلقا أن يكون كذلك مهما كانت طريقة الشرح والتفسير المعتمدة لأحكام الدستور باعتبار أن تلك العملية لم تكن مطلقا بصفة ارادية بل انها بمثابة الخلع الشعبي أو الاقالة الشعبية لرئيس لجمهورية وهي مسألة لم تنظمها أحكام الدستور بل أنها جاءت كنتيجة طبيعية لثورة الشعب التونسي. فالثورة في مفهوم القانون الدستوري هي حركة شعبية جماهيرية، عنيفة أو سلمية غير قابلة للمقاومة تهدف الى احداث تغيير جذري في النظام القائم وجميع القوانين التي كانت تنظمه وفي مقدمتها الدستور واستبداله بدستور جديد يؤسس للنظام الذي تهدف الثورة الى ارسائه، فهل يمكن القول اليوم إن الثورة التونسية أسقطت الدستور وأنها تتجه نحو دستور جديد. لا جدال في أن الشعب التونسي ثار ضد النظام القائم والمقصود بالنظام هنا هو أولا وقبل كل شيء النظام السياسي والخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كان ينتهجها. وإذا ما كان الأمر كذلك فإن هروب رئيس الجمهورية وتولي رئيس مجلس النواب مهامه بصفة وقتية لا يعني مطلقا ان الثورة أطاحت بالنظام الذي كان الرئيس الهارب يحكم بمقتضاه البلاد والعباد بل بالعكس ان تلك العملية يمكن أن تكون استمرارا له ويمكن أن تؤدي ولو على سبيل الافتراض، الى إعادة انتاج نفس النظام السابق والاكتفاء بمجرد إصلاحات لغاية ربح الوقت والإلتفاف على الثورة ومن ثمة العودة الى الوراء بطريقة أو بأخرى لاسيما إذا ما تم الاكتفاء بالدعوة لإنتخاب رئيس للجمهورية وفق أحكام دستور النظام السابق. إن جملة تلك الملاحظات تطرح نفسها بناء على ما نعيشه اليوم من غموض لدى السلطة القائمة من خلال إصرارها على التشبث بتلابيب دستور الرئيس المخلوع والتباطؤ في الاعلان عن نتائج أعمال تلك اللجنة لإقتراح اصلاحات سياسية بالبلاد والحال أن أعمال تلك اللجنة يفترض أن تكون أسرع من عمل أي لجنة أخرى لحاجة البلاد الأكيدة والعاجلة لمشروع النظام السياسي المرتقب ولمعرفة أعضائها وجميع المختصين في القانون الدستوري والمهتمين بالشأن السياسي بالحالة التي كان عليها دستور البلاد منذ إقراره سنة 1959 والذي كان بمثابة الألعوبة بين أيدي رئيسي الجمهورية السابقين يقومان بتعديله حسب الطلب طبقا لأهوائهما ومشيئتهما ويكفي الاشارة في هذا الصدد الى تلك التعديلات المتلاحقة والمتعددة والمتسارعة لأحكامه لغاية إستنباط الأحكام دستورية والقانونية التي لا تتوفر إلا في الرئيس القائم كلما دعته الحاجة اليها... الخ. وقد كانت تلك الأوضاع الدستورية من الأسباب الحقيقية والدفينة التي بقيت تتراكم في صدور التونسيين حتى جاءت اللحظة المناسبة التي هبوا فيها جميعا مطالبين بإسقاط النظام وقد تمكنوا من الاطاحة برأس ذلك النظام خلال 27 يوما ثم تواصلت الثورة بأشكال مختلفة للمطالبة بالشروع في تركيز الآليات اللازمة والضرورية لتجسيم النظام السياسي البديل عن النظام المطاح به، غير أنه الى حد هذه اللحظة يبدو أن السلطة الوقتية القائمة غير متفاعلة بالشكل الكافي مع المطالب الشعبية، فهي الى الآن لم تفصح عن نيتها الحقيقية وعن موقفها النهائي من الوضع الدستوري القائم الذي يتجه يوما بعد آخر الى التأزم. ان كل يوم يمر يؤكد عدم صحة الحلول والخيارات التي تحاول السلطة القائمة تمريرها ضرورة ان ما تبقى من تلابيب دستور العهد البائد سينتهي بالضرورة بموفى المهلة القصوى للرئاسة الوقتية والمقدرة بستين يوما والتي لم يبق منها سوى بعض الايام المعدودة لنجد انفسنا يوم17 مارس 2011 خارج نطاق القانون ولن تنفذ حتى نظرية القوة القاهرة المشار اليها بالفصل 39 من الدستور التي يحاول البعض تسويقها لإنتفاء أركان وشروط انطباقها واقعا وقانونا. ولذا فإنه لا مناص للسيد رئيس الجمهورية المؤقت من التحلي بالوطنية في هاته اللحظات التاريخية والمبادرة بإصدار مرسوم يدعو فيه الناخبين الى انتخاب مجلس تأسيسي تكون له المشروعية الشعبية بواسطة الاقتراع على الأفراد الحر والسري والمباشر حتى تتوفر فرصة حقيقية لكافة أفراد الشعب التونسي وخصوصا تلك القاعدة العريضة من شبابه ومثقفيه وفئاته الاجتماعية التي شاركت في الثورة وحافظت على استمراريتها دون أن تكون تابعة لأي طرف سياسي من ممارسة حقها في الانتخاب والترشح بعيدا عن أي شكل من أشكال الهيمنة وتسمح بإفراز العناصر النوعية القادرة على صياغة دستور جديد للبلاد يكون قادرا على ضمان التأسيس لنظام سياسي ديمقراطي حقيقي يقطع تماما مع النظام السابق ويحول دون توظيف أحكام القانون للإنفراد بالسلطة وفي ذلك استجابة للإرادة السياسية للجماهير الشعبية ولآراء ومواقف فقهاء القانون الدستوري واستئناسا بتجربة آبائنا وأجدادنا إبان الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي حيث تمكنوا رغم قلة تجربتهم بالمقارنة مع عصرنا الحاضر من انتخاب مجلس قومي تأسيسي كان له الفضل آنذاك في الانتقال بالبلاد من النظام الملكي الى النظام الجمهوري. بقلم : الأستاذ عبد الستار البرهومي (المحامي لدى التعقيب بسيدي بوزيد)