كثر الحديث بعد الثورة عن مناطق الحوض المنجمي إلا أن هناك مدنا منجمية أخرى لم تذكر وبقي سكانها يتألمون في صمت ومن بين هذه المدن مدينة الجريصة الواقعة في الشمال الغربي وتحديدا جنوب ولاية الكاف، فهذه المدينة المنجمية العريقة لا شيء يوحي أنها كانت منجما للحديد وتوفر حوالي 60 ٪ من الانتاج الوطني وكأنها ليست لها أي صلة بالبلاد التونسية فلا مشاريع ولا برامج حتى وان كانت وهمية فالمنطقة منسية تماما وبقي سكانها يتخبطون في الفقر والخصاصة والحرمان واللامبالاة حتى أن بعض كبار السن ممن عملوا في «المينة» يتأسفون على أيام «الكبنية» رغم رضوخهم للإستعمار في ذلك الوقت إلا أنهم كانوا يتمتعون بحقوقهم كاملة والمنطقة كانت مزدهرة. الزائر للمدينة لن يجد صعوبة في معرفة أنها كانت منجما للحديد فالجبل مازال شامخا وكأنه يذكر بتاريخ مجيد وعصر بأكمله حتى وان تجاهلته السلط، هذا التجاهل ولد فقرا مدقعا مما أدى الى نزوح الشباب الى المدن الكبرى بحثا عن لقمة العيش أو الهجرة الى ايطاليا وما انجز عنه من مآسي وأهوال، فالشباب في هذه المنطقة ميت منذ ولادته لأنه لم يعرف الرفاهية وطريق العمل وبقي ينظر بعيون حزينة الى غد قد يأتي وقد لا يأتي. وفي هذا السياق يذكر السيد مصباح المناعي الذي اشتغل في «المينة» لفترة تجاوزت الثلاثة عقود أن المدينة كانت كالحصن المنيع كل السكان يعملون فلا تجد البطال ولا المحتاج لأن «المينة» كما يحلو لسكان الجريصة تسميتها كانت توفر دخْلاََ محترما للجميع فقد تأسست سنة 1907 وشهدت ذروة الانتاج في سنة 1964 أين كان يعمل بها حوالي 2275 عاملا ووصل رأس مالها الى 2.5 مليون دينار وانخفض عدد العمال الى حدود 1300 سنة 1970 ومن هنا بدأت عملية التطهير كما قال محدثنا فما بين سنتي 1978 و 1993 نقص عدد العمال وذلك بإعطاء كل عامل يخرج ألفي دينار مع التمتع بالجراية الى حدود 9 أشهر ولكن المشكل أن هؤلاء العمال لم يتم تعويضهم لإحداث مواطن شغل جديدة الى أن أصبح عدد العمال اليوم 85 فقط، ويضيف زميله المكي الخليفي«هناك بعض المسؤولين تمتعوا بمنحة الخروج ووصلوا الى سن التقاعد ولكنهم مازالوا يواصلون العمل الى حد اليوم أليس لنا شباب من أصحاب الشهائد العليا بإمكانه العمل والحد من البطالة ويضيف «هناك تلاعب في صرف المنح وأرجو أن يتم التحقيق لكشف المستور كما أن أموالا كبيرة صرفت دون موجب وكل اجتماع يقام خارج الجريصة وفي النزل الفخمة وما ينجر عنه من مصاريف كبيرة كل ذلك على حساب العمال ألم يكن من الأجدر صرفها على العمال الذين أفنوا أعمارهم تحت الجبال? بعد صمت وتنهد عميق يقول محدثنا«إن المينة مازالت تحتوي على كميات كبيرة من الحديد وهذا ما أكد شركة كندية قامت بدراسة للمنطقة وما على الجهات المسؤولة إلا إعادة الروح اليها وذلك بإعادة تهيئة ما تعطب لتوفير مواطن شغل جديدة والحد من البطالة التي استفحلت في المنطقة. في الجريصة اليوم شباب مهمش وجبال شامخة وآلات معطلة أكلها الصدأ وكبار السن يتأسفون على حال مدينتهم التي وصلت الى حالة من الفقر لم يعد يحتمل وشبابها يتألم في صمت وكلهم ينظرون الى الثورة الأخيرة بعيون حالمة بعد سياسة لم تكن واضحة وملفات تم غلقها دون تبرير ولا توضيح لأسباب التخلي عنها دون مراعاة للوضع الاقتصادي والاجتماعي للجهة وينتظرون إعادة الى الجبل لإحياء المدينة من جديد وإعادة تشغيل معمل الآلات اليدوية باعتبار أن الفضاءات متوفرة وجاهزة لاستقبال وسائل الانتاج ولاينقصها إلا التمويل اللازم علما أن هذا القطاع الفني الميكانيكي هو قطاع ذو أولوية في منوال التنمية الصناعية بالجمهورية ويمكن كذلك إحياء منجم سراء ورتان الذي بإمكانه تشغيل الآلاف من العمال.