لأول مرة منذ زمان صدق الرجل وليته لم يصدق : سيبيد شعبه ( الجرذان كما لم يأنف ان ينعته) وها هي طائراته ودباباته ومدافعه تلقي حممها على المدن والقرى زنقة زنقة بيت بيت دار دار (البيت عند الليبيين هو المنزل والدار هي الغرفة) تستهدف قتلهم (فردا فردا)...ولم يصدق حينما قال انه «القائد الأممي الفذ» وان نظريته «العالمية» الثالثة تعطي السلطة للشعب الذي يقوم بذبحه عندما طالب بالسلطة الحقيقية وتعطي الثروة للشعب وقد جمعها بين يديه وأبنائه يمنحها لمن يشاء ويحجبها عمن يريد وتعطي السلاح للشعب وقد ارتضى منذ سنوات ان يضع هذا السلاح بين أيدي من يرى فيه ولاء..الى حين..ولم يصدق عندما قال ان الملايين سيقاتلون معه الاّ اذا كان يقصد بالملايين ملايين الدولارات يشتري بها من يقبل من بيادقه ومن يرتزق بالحرب والقتل...والارتزاق بالحروب مهنة قديمة قديمة..حنبعل القرطاجني قاتل بالمرتزقة وروما فعلت ذلك والفرس والكثير من ملوك وسلاطين العالم..والمرتزقة عاثوا فسادا في افريقيا طوال النصف الثاني من القرن الماضي ولا يزالون.. وفي عصرنا هذا المعولم أصبح للمرتزقة شركات «أمنية» بالعشرات ولم تتورع أمريكا عن استخدامهم حتى الآن في العراق وافغانستان ومناطق أخرى.. عتاة المغامرين من الجنود والضباط من القارات الخمس لا يجدون غضاضة في القتل لمن يدفع ..والقذافي لديه المال ليدفع.. ولديه قبل ذلك خطط لجا اليها منذ وقت ليس بالقصير.. منذ ان انفض من حوله من آمن بالقومية العربية وصدّق الزعيم الخالد جمال عبد الناصر بأنه يرى نفسه في القذافي وان القذافي هو الامين على القومية العربية.. ولم يكن الرجل امينا منذ ان اصبحت له «نظرية» عالمية واتهم كل القوميين بالتحزب ولديه ان «كل من تحزب خان» واطلق زبانيته ممن يسميهم «اللجان الثورية» التي انشأها في مارس عام 1979 يهاجمون عبد الناصر والناصرية في مؤتمر عقدوه بمنطقة (الدّرسيّة) بالجنوب الليبي في منتصف الثمانينات...وبعده لم يعد للقوميين الصادقين مكان في ليبيا بل ان بعضهم اضطهد او رحّل او نكّل به ولم يبق في ليبيا الا من لم يجد له مكانا يؤويه..بل ان الرجل الثاني في «ثورة الفاتح» الرائد الركن عبد السلام جلود اطيح به منذ عام 1993 وهو الذي خاطب يوما رجال الاقتصاد الذين جيء بهم من اصقاع العالم ليقول لهم انه (لم يفهم شيئا من الفصل الثاني الاقتصادي من الكتاب الاخضر) ..فقد القذافي ابناء العروبة بعدما فقد شعبه..ويمّم وجهه شطر افريقيا حتى اصبح «ملك ملوكها» يلبس مما يلبسون ..وبقيت له ايضا بقية ممن تجمعوا يوما ما فوق الارض الليبية من الثوريين من مختلف ارجاء المعمورة ، من الفيليبين (جماعة ابوسياف ونور مسواري) ومن امريكا اللاتينية ومن افريقيا وهم الاكثر..فصائل تشادية من مختلف المشارب واخرى من النيجر ومن مالي ومن بوركينا ومن ليبيريا وسيراليوني وغيرها من الساحات السمراء..واضاف اليهم الطوارق ، ذلك الشعب الأبي التواق للحرية، الذين وطّن المقيمين منهم في ليبيا وموّل المقاتلين لحكوماتهم جنوب الصحراء خاصة في مالي والنيجر اللتين تؤويان اكثر من 80 بالمائة من الطوارق ...من هؤلاء جمع القذافي مقاتلين.. ومن مغامري اوروبا الشرقية والغربية جمع مرتزقة ولديه ما يكفي من الملايين لدفع رواتبهم الخيالية...وبعض الاخبار تقول ان اسرائيل ساعدت في تجنيد كثيرين وهي التي تفضل ان يكون في الوطن العربي حكام طغاة حتى تظل هي «الواحة الوحيدة للديمقراطية في الشرق الأوسط»...وبقي لديه من الليبيين من ارتبط به مصيرهم..ان فاز فازوا وان انهار اندثروا وان قتل قتلوا وان فرّ قتلهم قبل ان يرحل مثلما فعل ابنه (الساعدي) عندما فر من بنغازي ولم يكن لديه متسع من مكان ليأخذ من كان معه..وليس ذلك غريبا على هذا الابن المدلل الذي لم يتورع عن قتل مشجعين لفريق منافس لفريقه في مباراة لكرة القدم (الساعدي هذا هو لاعب كرة القدم الوحيد في العالم الذي «احترف» بأن دفع من ماله لفرق ايطالية مقابل اللعب مباراة واحدة عوض ان يتلقى هو المال نتيجة احترافه(؟) ومن «ليبيا يأتي الجديد» مثلما يحلو لوالده ان يردد)..من هؤلاء الليبيين شكل ما اسماه «كتائب أمنية» بعدما فقد ثقته في جيش من أبناء شعبه.. وفي التسمية نفسها ما يدلّ على المهمة: الحفاظ على أمن الشخص والعائلة والنظام وليس الدفاع عن الوطن... بهذه الكتائب التي يتولى قيادتها ابناؤه أو أبناء عمومته من البيت الذي ينتمي اليه في قبيلته، بيت «القحصي»، اذ ان قبيلة القذاذفة العريقة في النضال تتفرع الى خمس «بيوت» على الأقل ستبين الثورة من بقي منها على ولائه لمن يريق دماء الشعب بالطريقة نفسها تقريبا التي انتهجها السفاح الفاشيستي (الجنرال غراتزياني) عندما كان آباء معمر نفسه يقاتلونه دفاعا عن الارض وعن الحرية وعن الكرامة...بهذه الكتائب يقتل القذافي ابناء جلدته وبالمرتزقة ممن قبض الثمن أو ممن آمن ب«ملك الملوك» ...يقتل ابناء ليبيا (زنقة زنقة وبيت بيت ودار دار وفرد فرد)...لقد احسن الصديق عبد الرحمان شلقم السفير في الاممالمتحدة وصف ما يقوم به القذافي عندما قال ان الرجل وضع شعبه امام خيارين لا ثالث لهما: (امّا ان احكمكم وامّا ان أقتلكم)..لكن هيهات لشعب ان يباد وهيهات لطاغية ان يؤبّد...ستسيل دماء كثيرة في ليبيا وذلك قدر شعبها العنيد الذي فقد نصفه في حرب الطليان ولم يستسلم وهو المؤمن بشعار الشهيد الخالد عمر المختار (نحن لا نستسلم ..ننتصر أو نموت).