يوم 13 مارس 2011 يوم انتظره كل القضاة، انتظروه ليخرجهم من الجمود الذي أصاب هيكلهم الوحيد المكلف بالدفاع عن السلطة القضائية ورفع وصاية السلطة التنفيذية عنها يوم انتظروه ليعبروا بكل حرية لأول مرة منذ 23 سنة ويشاركوا بأفكارهم ومقترحاتهم ويسهموا في وضع الخطوط العريضة لقضاء مستقل كفيل بحماية مكتسبات الثورة ومسايرة الوعي الشعبي العظيم الذي صنعها واستبق النخب والأحزاب والمؤسسات وكل مكونات المجتمع المدني. جاء القضاة بأعداد كبيرة من كل أنحاء الجمهورية وغصت القاعة على رحابتها بحضورهم وحضرت الصحافة المرئية وركزت آلات التصوير، لكن شيئا مريبا كان يحدث، لم أشعر أني في اجتماع لقضاة مستقلين ومحايدين بالمرة، الجو مشحون ويقف في أركان القاعة الأربعة مجموعات ترقب كل الحضور والشرر يتطاير من أعينهم فأيقنت حينها أن السياسة ستتغلب على الحياد وأن المؤامرة ستكون سيدة الموقف في هذا الاجتماع. افتتح السيد رئيس الجمعية الكلمة وكعادته أطال الحديث ومطط ومجد عمل المكتب التنفيذي وبرر انخراطه في تكتل سياسي وجدد التأكيد على الانخراط في السياسة بحجة مسايرة الثورة وكان خطاب الزعيم الأوحد بحق. فكلما نطق بجملة تقوم ثلة بالتصفيق الحار ليجبر باقي الحضور حياء على مسايرتهم وإعطاء الانطباع بشعبية رئيس الجمعية والتفاف كل القضاة حول شخصه، ولم يكتفوا بذلك، بل رفعوا أصواتهم بشعارات تناصر الجمعية بممثليها الحاليين تهيئة للحاضرين لتقبل الأمر الواقع. وأكمل السيد رئيس الجمعية كلمته بعد أن أخذ منا الملل مأخذا. وعندما رامت عضو المكتب التنفيذي السيدة وسيلة الكعبي أخذ الكلمة وهي رفيقتهم في الكفاح خلال سنوات الظلم والاستبداد، صدتها المرأة الفاضلة كلثوم كنو بشدة وافتكوا منها المصدح وحصلت بلبلة لنصل الى المطلوب: السيدة كلثوم كنو تطلب من الصحافة مغادرة القاعة لأن الأمر يتعلق بشأن قضائي بحت وكأن كلمة رئيس الجمعية التي سبقت تتعلق بشأن قضائي، ثم التفت تلك المجموعات المرابطة على مصوري القنوات التلفزية وأجبروهم على المغادرة ووعدتهم السيدة كلثوم كنو بأن التصوير سيتم بواسطة المصور الخاص بالاجتماع. نعْمَ الرأي فهي الخبيرة بالاتصال بعد أن عينت عضوا بالهيئة العليا لاصلاح الاعلام والاتصال. غادرت الصحافة مكرهة وعندها فقط تمكنت السيدة وسيلة الكعبي من الكلمة، الكلمة التي تفاعل معها أغلبية القضاة ولقيت معارضة من نفس تلك المجموعات المرابطة. المطلب الذي جاء من أجله القضاة هو تحديد موعد لمؤتمر استثنائي يختار فيه القضاة ممثليهم بكل حرية وفي جو شفاف وديمقراطي. القضاة يريدون الاحتكام إلى صندوق الاقتراع في أقرب وقت لأنه من غير المعقول أن ينصب أناس أنفسهم ممثلين عنهم تعسفا بحجة أنهم كانوا الأعضاء المنتخبين سنة 2004 فمدة انتخابهم تنتهي في سنة 2006 وليس الأمر يتعلق بعرش مستحق ليتربع عليه صاحبه مجددا بعد أن أبعد عنه. فتكليف الأعضاء الحاليين للمكتب التنفيذي من طرف القضاة لم يكن للمشاركة في السياسة وتنقيح الفصول وغير ذلك من الأعمال بل هو لمرحلة انتقالية وجيزة وللإعداد في تلك المرحلة لمؤتمر استثنائي. فالحكومة المؤقتة ضبطت مدة عملها بستة أشهر والسيد أحمد الرحموني وجماعته يريدون تمطيط الآجال وتأخير المؤتمر الاستثنائي الى ديسمبر من هذا العام أي أن عمل الجمعية أكبر من عمل الحكومة ويتطلب ضعف المدة للاعداد للانتخابات. ماذا حصل في غياب الصحافة؟ اختيار اللجنة التي ستتولى تدوين أعمال الجلسة كان اعتباطيا ويبدو أنه كان مخططا له لأن أغلب القضاة لا يعرفون هؤلاء الأشخاص. تدوين قائمة المتدخلين وجعل أسماء المعارضين لتوجه الجمعية في أسفل الترتيب الذي يبلغ 60 متدخلا رغم أنهم كانوا أول المسجلين. بعد مرور حوالي 15 مداخلة أغلبها من مناصري الرحموني تطلع علينا السيدة روضة القرافي عضو المكتب التنفيذي لتشير بأن القضاة القادمين من الجنوب ومحاكم الداخل يرغبون في المغادرة مقترحة المرور الى التصويت وعندها تتقدم المجموعات المرابطة بشراسة مرددة.. لا لا لا للمؤتمر الاستثنائي. ولولا تصدي بعض القضاة لذلك وإصرارهم على مواصلة المداخلات لمرت تلك المناورة على الجميع. المداخلات التي ضايقت أعضاء الجمعية لقيت تدخلا عنيفا من المرابطين بالتهديد وبالشتم وساندهم في ذلك رئيس الجمعية نفسه وكاد الأمر يؤول الى اعتداءات بالعنف. مل الحضور وبدأت القاعة تفرغ شيئا فشيئا وفي الأخير خرج البيان الذي كان جاهزا ومطابقا لخطاب رئيس الجمعية والذي أتحفنا به في بداية الاجتماع وخاصة في جانبه السياسي. وقع إقصاء السيدة وسيلة الكعبي لما عارضت التصريح بالبيان دون مناقشته والتصويت عليه.. هتافات وضوضاء وأهازيج وكأننا في مؤتمر حزبي. أدخلت الصحافة لتصور مشهد الفرحة بانتصار أعضاء الجمعية. كان حقا عرسا للديمقراطية توج بصور ظهرت لاحقا على الوطنية لم تعكس مطلقا واقع الاجتماع ولعب فيها المقص أو لنقل أن آلات تصوير القنوات لم يسمح لها بالتصوير إلا في المشاهد التي تصب في صالح ديمقراطية الرحموني. لماذا أقصي الاعلام؟ ألم يصرح السيد الرحموني بأن القضاء مطالب بمواكبة الثورة والتفاعل معها؟ أليس من حق الشعب أن يطلع على الشأن القضائي الذي يعنيه من قريب لكونه الدعامة الأساسية للديمقراطية والحرية؟ هل كان ثمّة شيء يجب إخفاؤه عن الشعب؟ كان عليك يا سيد رحموني أن تترك الاعلام يقوم بعمله وكان عليك يا سيدة كنو وأنت عضو الهيئة العليا للاصلاح أن تحترمي حرية الاعلام. هكذا تمّ اجتماع القضاة أصوات الحق والعدالة بوأد حرية التعبير والاعلام وإخفاء الحقائق والاعتداء على حق الأغلبية بمسرحيات تجمعية. هي الدكتاتورية الجديدة تبررها الشرعية النضالية.