منذ «باي الشعب» وصولاً إلى «منقذ الوطن» مرورًا بعهد «أبي الدولة» والشعب التونسيّ يتلقَّى رسالةً يتغيّر مُرسِلُوها بينما مضمونها واحد: «أنت شعبٌ قاصر تحتاج إلى أبٍ يحميك ويدبّر لك أمورك ويعرف مصلحتك أكثر منك»! شيئًا فشيئًا كادت هذه الفكرة تتّخذ شكل ثقافة جماعيّة وكاد البعض يُسلِّمُ بأنّ هذا الشعب من مدْمِنِي «البحث عن الأب»، لا يخرج من طور الحضانة ولا ينضج لاستحقاق حريّته ولا يخلُصُ من وصاية إلاّ إلى وصاية. قد يَكْمُنُ شيء من هذا في الحماسة التي يعود بها البعض هذه الأيّام إلى استحضار الزعيم بورقيبة رغبة في إحياء حزبه القديم، أو بوصفه أبًا مفقودًا كشخصٍ منشودًا كمثال، يُفتَقَدُ افتقادَ البدر في الليلة الظلماء، بعد أن قام الغيابُ بدوره كمبدع في الماكياج ونقَّى الصورة من كلّ شوائب الأيقنة وعبادة الأشخاص وأنسى الجميعَ كلَّ وعيٍ نقديّ تجاه الفقيد المُطَوَّب! بورقيبة عبقريّ لا شكّ في ذلك. وهو جزءٌ من تاريخ تونس وقد لا يخلو مستقبلها من بصماته. واحترامُهُ جزءٌ من واجبِ احترام المناضلين ضدّ الاستعمار وجزءٌ من واجب الوفاء لتضحياتهم. إلاّ أنّ احترام الرجل لا يلغي ضرورة إنصاف الغابة التي حجَبَها، كما لا يلغي ضرورة النظر النقديّ إلى مرحلته التي لم يُكْتَبْ تاريخُها حتى اليوم بالموضوعيّة المطلوبة. خاصّة في كلّ ما يتعلّق بعدم تطابُق الوعود مع المُنجَز. انطلق الرجلُ من رؤية عقلانيّة. وسعى إلى تأسيس دولة مؤسّسات يتحوّل بواسطتها «الرعايا» إلى «مواطنين». واستأنس بجهد أجيال من النخب الفكريّة والإبداعيّة من أمثال الطاهر الحدّاد لبناء مجتمع حديث متصالح مع ما هو نيّر في خلفيّته العربيّة الإسلاميّة. وحرص على تحرير المرأة. ورفع شعار تعميم التعليم لتوحيد فئات الشعب وتغيير الذهنيّات. ودافع عن العمل كقيمة. وحاول محاربة الفقر عن طريق تنمية الجهات لبناء اقتصاد متكامل في دولة عصريّة تتولّى سلطتها المركزيّة إعادة توزيع الثروة. إلاّ أنّ أسبابًا كثيرة ليس هذا مجال الخوض فيها، منها ما هو مرتبط بطبيعة الشخص ومنها ما هو متعلّق بمحيطه الداخليّ والخارجيّ، تضافرت لخلق كلّ الظروف المناسبة للالتفاف على وعود تلك المرحلة. وعلى الرغم من عدد من الإنجازات التي لا يمكن الاستهانة بها، فإنّ في الوسع القول إنّها كانت مرحلة الفُرَصِ المُضيَّعة والوعود المغدورة. كان الزعيم مُغرمًا بالكوجيتو الديكارتي. «أنا أفكّر إِذَنْ فأنا موجود». وأذكرُ خُطَبًا لهُ كثيرةً ألحّ فيها على عبارة «المادّة الشخماء»، مؤكّدًا أنّه «يفضّل التعامل مع المشاكل التي يثيرها شعب مثقّف على التعامل مع تلك التي يثيرها شعبٌ جاهل». لكن ما أن أصبح لهذا الشعب مطالب الشعوب المُثقّفة حتى ضاق به الزعيم ذرْعًا. وفجأة حلّ «الكوجيتو البورقيبي» محلّ سَلَفه. «أنا أفكّر وأنا أقرّر إذَنْ فأنت غير موجود». هكذا حلّت دولة الأشخاص بل دولة الشخص الواحد محلّ دولة المؤسّسات. وتحوّل النظام الجديد، ربّما منذ إخماد الحركة اليوسفيّة، إلى مطحنةٍ لافتراس المواهب البديلة كي يخلو المشهد للحاكم الواحد والحزب الواحد. وتحوّل التحديث إلى فَرْنَسَة. وتراجعت العقلانيّة أمام تغييب التعدّد الذي غيّب الجدل والحجاج. وتفكّكت أضلاع المثلّث الذهبيّ: العمل والتعليم والتنمية، مع ما يعنيه ذلك من تبعات اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة. هذا المناخ هو الذي أفسح المجال لبن علي في ما بعد كي يقترح كوجيتو حُكْمِهِ المافيوزيّ: «أنا أفسد وأستبدّ إذنْ فأنت مفقود». فإذا هو جزءٌ من إرث المرحلة البورقيبيّة في جوانبها السلبيّة. كان لبورقيبة مشروع يمكن أن نأسف لتنفيذه جزئيًّا أو لعدم تنفيذه بالشكل المطلوب، أمّا بن علي فلم يكن له مشروع أصلاً عدا نسْفِ كلّ وعود المشروع البورقيبيّ. لذلك اغتنم فرصة شيخوخة الأب وتبرّم الأبناء به كي يحلّ محلّه منقلبًا على كلّ شعاراته ومضامينه. شيئًا فشيئًا حلّت دولة العصابات محلّ دولة المؤسّسات. وحلّت الجهويّات والفئويّات محلّ العروش والقبائل. وكثر معدّل الانقطاع عن الدراسة بعد أن أصبح التعليم طريقًا إلى البطالة وتعليمًا للفقراء وآخر للأثرياء ومحلّ تجاذُبٍ بين دُعاةِ خياراتٍ حضاريّة متناقضة يتدخّل فيها العامل الخارجيّ ومصالحه. وسقط حلم التنمية الاقتصاديّة في فخّ تقسيم البلاد إلى جهات محرومة منسيّة وأخرى محظوظة، بل وإلى عصابات وعائلات تحتكر الموارد والاستثمارات. إلاّ أنّ الشعب الذي تعلّم على يدي بورقيبة لم يسمح بنسف الوعود والأحلام. كما لم تسمح المرأة بالعودة إلى الخلف. وظلّت شعلة الحريّة والكرامة حيّة في العقول والأرواح، بفضل المقاومة الثقافيّة التي مارسها أجيال من المثقّفين والمبدعين والنقابيّين والنُّخب السياسيّة ومناضلي المجتمع المدني والطلبة والإعلاميّين والمربّين في المدارس والمعاهد والجامعات، نجحوا في تربية جيل جديد عرف كيف يصنع من جذوره أجنحة. من هذه الناحية في الوسع القول أيضًا إنّ ثورة 14 جانفي 2011 هي من بعض النواحي جزءٌ من إرث البورقيبيّة في وعودها الجيّدة. وعلى شبابها اليوم أن يذهب بهذه الوعود إلى حدّ التحقّق وأن يضيف إليها من إبداعه ما يبني خياراته الحضاريّة على أرضيّة صلبة، من أعمدتها: الدفاع عن الحريّات، والنظر في البرامج لا في الأسماء، واحترام التعدّد والاختلاف، ورفض عبادة الأشخاص واحتكار السلطة والإقصاء، والحذر كلّ الحذر ممّن يرفع شعار «أنا أو لا أحد». فهو واحد من اثنين: إمّا من «أطفال بورقيبة» في تضخّم الأنا، وإمّا من «يتامى بن علي» في فسادها المُطلَق.